عجيب أمر هؤلاء الناس: أولئك الذين «لا يعقلون»: ويحبون أن يجاريهم الآخرون في «الغيبوبة العقلية»، وكأن شعارهم المفضل «لنسقط متحدين في أودية الحمق والجنون».. لم تكد أنباء الحراك السياسي الحر النزيه العقلاني الذي يقوده الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز في المنطقة، لم تكد هذه الأنباء تنتشر حتى سارعت أطراف كثيرة «دولية وإقليمية أو أميركية وعربية وبلا لياقة دبلوماسية» إلى إسقاط أهوائها وأمانيها على هذا الحراك طبعا.. ليس من حقنا أن نمنع أحدا من «التفسير السياسي» لهذا الحدث أو ذاك، بيد أن للتفسير السياسي المعتبر شروطه ومقوماته ولوازمه. ومن هذه الشروط والمقومات في حالتنا هذه، مثلا: التعرف الموضوعي على شخصية صاحب القرار والموقف.. ثم التعرف الموضوعي على الدور التاريخي والسياسي لبلد صاحب القرار والموقف:
1) العاهل السعودي رجل يتمتع بصفات العقلانية.. والمسؤولية.. والنزاهة.. وحمل الهم العربي حملا يحفزه - دوما - إلى ابتدار المواقف التي تنقذ السفينة من الغرق، وتنجي الدار من الحريق.. على سبيل المثال: لقد اكتنفت قمة الكويت الاقتصادية أجواء كادت أن تلقي اليأس السياسي في قلوب العرب أجمعين.. هنالك فتح العاهل السعودي نوافذ للأمل من خلال خطاب باغت الجميع عماده المصارحة والمصالحة العربية ونقد الذات ابتغاء إنقاذها.. فقد جاء في ذلك الخطاب: «يجب أن أكون صريحا صادقا مع نفسي ومعكم فأقول: إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقساماتنا وشتات أمرنا، وما زالت هذه الخلافات عونا للعدو الإسرائيلي الغادر ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا. إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا وعن الضعف الذي هدد تضامننا. أقول هذا ولا أستثني أحدا. أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا، وأن نسمو على خلافاتنا، وأن نهزم ظنون أعدائنا». ولقد صدّق قوله بالفعل الذي تمثل - من بعد - في قمة الرياض وفي مناخها التصالحي التعاوني الأخوي التضامني.. ثم عادت - في هذه الظروف - الأجواء النكدة إلى الفضاء العربي بسبب الأهواء الذاتية، والتدخلات الخارجية. فاعتكر الجو، وضاق الخناق، واشتد الكرب.. وعندئذ انبعث الملك عبد الله بخصائصه هذه فابتدر حراكا جديدا شمل دولا عربية أربعا (مصر، سورية، لبنان، الأردن).
2) أما الدور التاريخي والسياسي للسعودية فهو الشرط الثاني لفهم أي قرار أو موقف سعودي فيما يتعلق بقضايا الإقليم والأمة.. بالأمس كان الملك في زيارة للبنان، وقبيله في سورية، وكان موضع احترام وتقدير من الأطراف كافة: لنزاهته وعدالته ونظرته التي تتسع للجميع: بمختلف طوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الآيديولوجية والسياسية.. وثمة سبب آخر رئيسي لهذا الاحترام والتقدير، وهو: دور المملكة التاريخي والسياسي تجاه لبنان وسورية.. فالمملكة العربية السعودية هي «راعية» اتفاق الطائف - الذي أنصف البلدين - وهو اتفاق رتب أمور لبنان بعد الحرب الأهلية البشعة التي لبثت تطحن البلد - بمن فيه وما فيه - سنين عددا، ثم هو اتفاق يوظف عبرة لتلك الحرب ليس في حماية البلد من الوقوع في مثلها، بل حمايته من الاقتراب من ملابسات لتلك الحرب وأجوائها المريضة.. ولقد كان اتفاقا عظيما وعاقلا ومتوازنا وواقعيا إلى أبعد الحدود.. نقرأ في بنوده: «لبنان وطن سيّد حر مستقل، وطن لجميع أبنائه، وطن واحد: أرضا وشعبا ومؤسسات في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني المعترف بها دوليا.. لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية، وملتزم بمواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها.. لبنان جمهورية ديمقراطية لبنانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد. وتقوم على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل.. إن لبنان الذي هو عربي الانتماء تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سورية علاقات مميزة مستمدة قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين، وسوف تجسده اتفاقات بينهما في شتى المجالات لما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما، واستنادا إلى ذلك فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سورية، وجعل سورية مصدر تهديد لأمن لبنان في أي حال من الأحوال.. العمل على تنفيذ سائر القرارات الدولية القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة واتخاذ كافة الإجراءات لتحرير جميع الأراضي اللبنانية».
إن اتفاق الطائف إذ يبرز عقلانية اللبنانيين وتحضرهم، يبرز - في الوقت نفسه - عبقرية الدور السعودي التي جمعت اللبنانيين على وثيقة تاريخية سياسية نادرة.. ولقد تعزز هذا الدور برؤى الملك عبد الله إزاء قضايا عربية كثيرة. فمن خلال معطيات كثيرة نكتشف رؤيته للأوضاع في لبنان. وموجزها: أن أولويات لبنان هي السلم الأهلي والاستقرار والوحدة الوطنية والنماء والحوار البناء. وأن لبنان يجب أن يظل وطنا أكبر من الأفراد والطوائف والأحزاب ومن سائر الدكاكين الآيديولوجية والسياسية.. ورؤيته للصراع العربي - الإسرائيلي، وخلاصتها - كما تقرر في قمة الرياض - أن العرب أهل سلام، ولكن لا تطبيع قبل جلاء إسرائيل الكامل من الأرض العربية التي احتلتها عام 1967، وقبل تمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم المشروعة.. وقبل الكف عن العدوان والقتل والحصار..
ورؤيته للملف النووي الإيراني، وخلاصتها: أن المملكة ضد شن حرب على إيران أولا: لأن السعوديين غير مقتنعين بحل المشكلات بالحروب. وثانيا: لأن كل حرب في الإقليم تزيده تفجرا وتأزما. كذلك فإن السعوديين لن يقبلوا بإيران مسلحة بالنووي، ومن هنا فإن على إيران أن تعقل وأن تعيد حساباتها الاستراتيجية تجاه جيرانها بما يطمئنهم إلى نياتها وإلى معقولية جملة سياساتها في المنطقة.
والعماد الأعظم لهذه الرؤية هو: استحضار العقل وإعماله، والانطلاق من التقدير الدقيق للمصالح الكبرى.. والنزاهة في التعاطي مع الشأن العام للأمة.. وبالنسبة لاستحضار العقل نقول: إن الاستقراء العلمي دل على أن مصائب الأمة كلها نشأت واستفحلت في غيبة العقل، كما دل الاستقراء على أنه ما من تقدم وأمن ووحدة وصورة جميلة بلغتها الأمة إلا كان العقل المستنير الرصين من أعظم أسبابها.. فهل يعقل العرب الحراك السعودي العاقل المسؤول؟ وهل يتجاوبون - بالتالي - مع هذا الحراك من أجل مستقبل منطقة أوفر عقلا واستقرارا ورخاء وأمنا وسلامة، وأبعد عن الحمق والاضطراب والتدمير «البيني المتبادل»؟