قراءة أخرى للأوراق المسربة

TT

تسريب الأوراق العسكرية الأميركية من البنتاغون حول سير العمليات في أفغانستان، حادثة ضخمة (أكثر من 90 ألف مسودة غير منقحة بعضها لم «يؤرشف» للقسم المخصص)، وبدوي إعلامي حول ذلك الأبصار والأذهان عن حقيقة أولية: الأوراق المسربة لم تخبرنا بمعلومة جديدة.

لكن التسريبات تحولت في يد التيارات اليسارية (المعادية لأميركا أصلا سواء خاضت حرب أفغانستان أم لا) إلى طبلة ضخمة. صحيفة «الغارديان» باعتبارها سفينة قيادة أسطول اليسار الأوروبي - الأنجلوسكسوني، أفردت 15 صفحة لعرض انتقائي مفصل على مقاس المزاج المعادي لأميركا.

حادثة تسريب الأوراق للموقع الإلكتروني «Wikileaks» نفسها خبر صحافي؛ لكن اسأل أي صحافي - ناهيك عن خبراء الدفاع ومكافحة الإرهاب - أن يعثر فيما نشر من الأوراق على ما يصلح خبرا، والإجابة «لا يوجد».

«ويكي - ليكس» كلمة مركبة من كلمة مبتكرة ويكي، والترجمة المفهومية (لا توجد ترجمة حرفية) تعني «تسريبات من وإلى وبمشاركة العامة». جوليان أسانغ، مؤسس الموقع ومحرره، وزملاؤه لا يقومون بالتحقيقات بأنفسهم، وإنما يعتمدون على زوار الموقع لتقديم معلومات يحاول المسؤولون إخفاءها، ربما لأن نشرها يحرج مسؤولا يحاول خداع الرأي العام في حالة الحكومة؛ أو المستهلك في حالة شركات الإنتاج، أو المرضى في حالة شركات الدواء. وآخرها مثلا تسريب صحافيين من الـ«بي بي سي» معلومات عن قضية رفعتها شركة تخلص من النفايات ضد الهيئة بعد بث الأخيرة تقريرا اتهم الشركة بتهديد صحة سكان منطقة قريبة من ميناء شحن بضاعتها، لكن الهيئة تصالحت مع الشركة ومسحت الأشرطة.

مقارنة أسانغ نشر موقعه لأوراق أفغانستان بتسريبات وثائق فيتنام من البنتاغون عام 1971، مغالطة تاريخية يمكن مقارنتها بمحاولة الإسكندراني بيع الترام للعمدة القادم من الصعيد قبل قرن ونصف القرن.

تسريبات القرن العشرين، مثلما سمت الصحافة وثائق فيتنام، كانت ملفات محفوظة ومرقمة لتقارير منقحة مؤرشفة (غير حال أوراق أفغانستان). جهود الصحافة وقتها كشفت هيكلا كاملا مركبا منظما وله ميزانية لمهمة خداع وتضليل الشعب وسلطته الرابعة؛ وهو أمر لم يحدث في حرب أفغانستان. وبعكس أوراق فيتنام، فإن أوراق أفغانستان ليست مرقمة بتنظيم أرشيفي مرتب هيكليا.

الفائدة التاريخية من تسريبات أوراق أفغانستان هي لغير المتخصصين في الشؤون العسكرية ومقاومة الإرهاب الإظلامي، كالعاملين في هيئات خيرية ومؤسسات تنشط في أفغانستان في مجال تحرير النساء والأقليات والأطفال من سطوة الطالبان وتوفير التعليم والعلاج، وإعادة بناء الدولة، والقضاء على زراعة الأفيون وتهريب المخدرات.. الفائدة هي تنبيه هؤلاء لما أدركه المتخصصون قبل سنوات من بطلان ادعاء شركات الأسلحة المتطورة في الثمانينات أن حروب المستقبل ستكون مثل العمليات الجراحية في الطب المتقدم؛ أي حصر الخسائر في جانب «العدو» فقط مع تقليل الخسائر المدنية إلى أدنى حد بسبب دقة تصويب أجهزة توجيه هذه الأسلحة ومحدودية قدرتها المهلكة في دائرة صغيرة قطرها بضعة أقدام.

عندما زرنا، نحن الصحافيين، هذه المواقع قبل سنوات، كشفنا غفلة ادعاء صناع الأسلحة المتطورة، فغالبية الشعب الأفغاني وحكومته المنتخبة هم «نحن» أي ضمن قوات التحالف، وكانت الخسائر في صفوفهم كمدنيين مرتفعة. ليس فقط بسبب أخطاء في أجهزة توجيه قنابل الطائرات أو تحديد المواقع على الخرائط، بل لأن «العدو»، أي طالبان وحلفاءها، من إرهابيي «القاعدة»، اختاروا سلاحين تكتيكيين لاستراتيجيتهم العسكرية: الألغام المتروكة على قارعة الطريق «IEDs» (أفخاخ التفجير المرتجلة Improvised Explosive Devices)، وتفجر بإشارة لاسلكية أو بذبذبات المرور. ولأنها مرتجلة، فهي ليست دقيقة، حيث تصيب شظاياها المارة ووسائل المرور، كمصرع 25 معظمهم نساء وأطفال في باص في سوق نيمروز يوم الأربعاء 28 يوليو (تموز).

السلاح الآخر هو الانتحاريون بأحزمة ناسفة أو بسيارات مفخخة، والضحايا مدنيون لا وزن لهم في حساب الإظلاميين (ولا نسميهم إسلاميين لرفض ملايين المسلمين إرهاب المتشددين).

وقد استمر بعض عناصر مخابرات باكستان في دعم طالبان الأفغان (وليس طالبان باكستان) فهي الأخرى لديها معلومات قديمة، وأشرنا في «الشرق الأوسط» قبل أعوام إلى اعتراف الرئيس السابق برويز مشرف ضمنيا بمعاناته من فساد بعض عناصر مخابراته الذين أثروا من دعم المجاهدين الأفغان ضد السوفيات في الثمانينات؛ مع وجود تيار يريد الاحتفاظ بورقة طالبان الأفغان لمقاومة نفوذ الهند من ناحية، ومساومة كابل من ناحية أخرى بعد انسحاب قوات التحالف.

الحقيقة الأخرى التي تعمد ناشرو الأوراق المسربة تغافلها (والمعلومات اختيرت من أقليتها بعناية خبيثة) أن الأوراق عن فترة 2004 إلى 2009، عندما تغافلت إدارة جورج بوش عن أفغانستان مركزة على العراق، هي التأثير الكبير لاستراتيجية الجنرال ستانلي ماكريستال في كسب ود القلوب وإقناع العقول. فقد حول القسم الأكبر من المجهود العسكري إلى حماية المدنيين الأفغان ليسمح لهم بوقت كاف للتمتع بالمكاسب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي حصلوا عليها في المناطق المحررة من طالبان، كبناء مستشفيات ومدارس للبنات ومراكز تعليم ومكتبات ومراكز فنون وثقافة، وبالتالي يدعمون الحكومة وقوات التحالف لحماية هذه المكاسب.

الواضح أن الهدف من نشر الأوراق، هو توفير الوقود لمشعلي نار مناهضة الحرب في أفغانستان. صحيح أن الحرب لا تلقى شعبية كبيرة في بلدان حلف شمال الأطلسي. ورغم أنها أطول من حرب فيتنام، فإنها لم تولد زخم معارضة شعبية في أميركا أو بريطانيا بضخامة وزخم المعارضة الشعبية التي ولدتها حرب فيتنام، وكانت حركة شعبية اشترك فيها الجنود العائدون من فيتنام.

والنشر الانتقائي للأوراق تم منذ أيام فقط، ولذا فأثره على سير الحملة نفسها لم يتضح بعد، وربما يكون له أثر مشابه لأثر تجاوزات سجن أبو غريب في العراق (والتي تمت فيها التحقيقات وعوقب مرتكبو المخالفات)، وإن كان الفارق أن التجاوزات كشفتها الصحافة وليس مسودات تقارير كانت تعد للقيادات الميدانية والوزارية.

القوات الأميركية وقوات التحالف تستعد للانسحاب خلال أشهر، وتسليم السلطة تدريجيا للقوات الأفغانية. ومن الحماقة أن تسمح القيادات السياسية لقوات التحالف - أو الدول الإسلامية - بالخضوع لابتزازات اليسار الطفولي، والتيارات الساعية لإرجاع المجتمعات الإسلامية إلى القرون الوسطى. ويجب ألا تسمح لندن أو واشنطن أو زعامات العالم الإسلامي الرشيدة لهذه التسريبات بأن تحول تركيزها عن المهمة الأساسية وهي هزيمة الإرهاب والتطرف في أفغانستان؛ فعودة الملا محمد عمر، وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن إلى كابل، ستصاحبها قنابل الإرهاب والانتحاريين ليس في شوارع لندن ونيويورك فقط بل أيضا في القاهرة والرياض وعمان، حيث يتذكر أهل هذه المدن جيدا كيف أهدر الإظلاميون فيها دماء المسلمين قبل غيرهم.