حقوق العراق الضائعة في مياه دجلة والفرات

TT

برزت أزمة المياه في العراق لأول مرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي إبان حكم البكر - صدام إثر إنجاز بناء أحد السدود الضخمة في تركيا وتخزين المياه فيه، كما رافقه توتر سياسي في العلاقات بين العراق وسورية حتى بلغ نقص المياه في نهر الفرات حدا كبيرا بسبب العجز في الميزان المائي والخلل بين العرض والطلب المتزايد على المياه.

ومن دون شك، فإن العراق ورث، منذ سقوط حكم صدام، مشكلات عويصة، فقد خاض النظام السابق حروبا عبثية كارثية ضد الشعب الكردي، وضد إيران، وضد دولة الكويت، وهذا الانشغال في الحروب الداخلية والخارجية أدى إلى ضياع حقوق العراق بفعل تجاوزات دول الجوار عليه، وبسبب صرف مبالغ خيالية من جانب ذلك النظام على التسليح بدلا من بناء السدود والمستشفيات وصناعة الكهرباء والزراعة والاستثمارات والتنمية الاقتصادية.

يضاف إلى ذلك أن الوضع السياسي العراقي الحالي مضطرب، مما يؤثر على إيجاد الحلول السريعة لهذه المشكلات الموروثة، كما أنه من المؤسف أن أغلب الشخصيات والأحزاب والحركات السياسية التي ناهضت النظام السابق وتسلمت مقاليد السلطة في العراق لم تكن أهلا لتحمل المسؤولية التاريخية والدستورية والقانونية في الارتفاع إلى مستوى الأزمات التي يعاني منها العراق.

وإذا كان صلب موضوعنا ينصب على قضية المياه فقط، فإن الغاية من هذه السطور ليس إيجاد الحلول السحرية لأزمة المياه في العراق، بل هو مجرد دق جرس الإنذار للحكومة والمسؤولين العراقيين للكارثة التي يواجهها مستقبل العراق وأجياله المغلوبة على أمرها، ولضياع حقوق العراق في مياه نهري دجلة والفرات التي تشترك فيها كل من تركيا وسورية، ولممارسات إيران غير القانونية في التجاوز على حقوق العراق في المياه في الحدود الشرقية.

أزمة المياه في العراق هي قضية قانونية أولا، وقد استعملت كوسيلة للضغط السياسي ضد العراق في مرات متعددة، ففي عام 1969 قام نظام شاه إيران بإغراق مساحات واسعة من مدينة البصرة ومنها جامعة البصرة حين أطلق مياه نهر الكارون وتسبب في أضرار بليغة وخسائر مالية وتعطيل للدراسة، وكان الهدف من ذلك الضغط على حكم البعث وإيجاد الفرص لإلغاء معاهدة عام 1937 التي نظمت حقوق الطرفين في شط العرب. وفعلا فقد ألغيت تلك المعاهدة من جانب الطرف الإيراني، ونجح في الابتزاز السياسي، وترتب على ذلك توقيع اتفاقية الجزائر سيئة الصيت التي وقعها صدام وفرط فيها في السيادة الوطنية حين تنازل عن نصف شط العرب وفقا للاتفاقية الموقعة في 6 مارس (آذار) من عام 1975.

وتشير الكثير من الدراسات إلى أن طول نهر الفرات يبلغ 2330 كلم، موزع كالآتي: 442 كلم في تركيا، 675 كلم في سورية و1213 كلم في العراق. وأما نهر دجلة فيبلغ طوله 1718 كلم ويتوزع بين تركيا وسورية (44 كلم) والعراق. وهذا يعني أن النهرين المذكورين ينطبق عليهما وصف الأنهار الدولية وليس الأنهار الوطنية.

فالنهر الدولي لا يجوز أن تنفرد دولة ما لوحدها باستغلال مياهه دون مراعاة حقوق الدول الأخرى التي يمر بها النهر، لأن النهر الوطني ينبع وينتهي في حدود الدولة الواحدة ويسمى بالنهر الداخلي ويخضع للسيادة الكاملة للدولة من حيث الاستغلال والصيد والملاحة وإقامة المنشآت عليه وغيرها، بينما النهر الدولي ينبع في دولة ويمر في دولة أخرى أو دول متعددة مما توجب قواعد القانون الدولي تنظيم أحكام الاستغلال بصورة عادلة ووفقا للقانون والاتفاقيات ذات الصلة، وهو ما ينطبق على دجلة والفرات. ولذلك لا يجوز لتركيا ولا لسورية أن تمارسا السيادة المطلقة على مياه دجلة والفرات وإنما تكون السيادة مشتركة تستفيد منها جميع الدول، كما لا يجوز لأي دولة تبديل الطبيعة الجغرافية لمجرى النهر، كأن تقوم بالتحويل الكلي أو الجزئي لمجرى النهر، لأن لهذه الدول حقوقا مشتركة في الانتفاع من المياه، وهذا ما يجري على الأنهار الدولية الأخرى مثل نهر النيل ونهر الراين ونهر الدانوب وغيرها.

ولحل الأزمة المائية في العراق، نرى ضرورة قيام الحكومة العراقية ببناء السدود وتخزين المياه لكي لا تتفاقم الأزمة، والتي يبدو من كل الدلائل قرب حصول الكارثة في هذا الجانب، لا سيما أن هناك جهلا في الثقافة الصحية والبيئية في العراق بسبب رمي نفايات خطيرة في نهري دجلة والفرات.

ويجب تشكيل لجنة عليا دائمة في مجلس الوزراء من الخبراء العراقيين ومن مختلف التخصصات «اقتصاد، قانون، زراعة، مياه» تسمى لجنة المياه تقدم الخبرة والمشورة، وتتابع بدقة حقوق العراق في المياه، وتكون داعمة لدور وزارة الموارد المائية أيضا، شريطة أن لا تكون على أساس المحاصصة الطائفية أو السياسية.

ونشير بهذه المناسبة إلى أنه أثناء اجتماع الجمعية الوطنية العراقية عام 2005، حين حضرها رئيس الوزراء وعدد من المسؤولين، قلنا صراحة بضرورة الاهتمام بحل قضية أزمة المياه في العراق بالحوار وطبقا للقانون الدولي والمعاهدات المبرمة بين تركيا وسورية والعراق، غير أن هذا التنبيه يبدو أنه لم يلق آذانا صاغية بسبب أولويات السياسيين في الصراع على السلطة ومزج السياسة بالاقتصاد.

ونحن نأمل من جميع العقلاء في هذه الدول أن يسهموا في صنع السلام بين الشعوب من خلال التمسك باحترام الحقوق وعدم السماح للتوترات السياسية أن تنعكس على حقوق ومصالح الشعوب، لأنها هي التي ستكون الضحية، مما يؤثر على تعكير التعايش، وتوفير المناخ المناسب للحروب والنزاعات التي لن تسبب إلا المزيد من الآلام والكوارث.

كما نأمل أن تقوم الوزارات المختصة في الحكومة العراقية بتنظيم حملة إعلامية كبيرة ومستمرة للتوعية بمخاطر تلوث المياه، والمخاطر البيئية والصحية، وضرورة ترشيد الاستعمال للموارد المائية، وتغيير أنماط السقي إلى الأساليب الحديثة، لا سيما أن أزمة المياه سوف تتفاقم في ضوء الأوضاع الحالية بسبب اتجاه سورية وتركيا لبناء المزيد من السدود، ومشروع سورية بتحويل مجرى نهر دجلة، مع إنشاء سد مشترك مع تركيا بتمويل كويتي.

* أكاديمي وخبير قانوني عراقي