تدبير الشأن الديني في المغرب

TT

ترتفع في المغرب، في الآونة الأخيرة، أصوات تدعو إلى وجوب الانكباب على مجال الدين والاعتناء بأمر التدبير الديني في البلد. تصدر هذه الأصوات عن جهات مختلفة وتمثل مثقفين من مشارب فكرية متباينة ولكنها، جميعها تلتقي عند إعلان المخاوف، مما يبدو أنه يحدق بالحقل الديني من أخطار بالنظر إلى تنامي حركات وتيارات غريبة عن الجسد المغربي بعيدة عن اختيارات المغاربة العقائدية، وبالتالي الإساءة البالغة إلى الأمن الروحي والاستقرار المذهبي الذي ميز الوجود الاجتماعي والثقافي في هذه المنطقة من المغرب العربي على مدى قرون عديدة متصلة لعل أبرز تلك المخاطر هو الدعوة إلى التنصير المكشوف أو المقنع، وهذا من جانب أول. وهو ما يبدو من تسرب دعوة شيعية تلبس لبوسا متنوعا من جانب ثان. وهو نزعات السلفيات الجهادية بمختلف أصنافها وتجلياتها وهذا من جانب ثالث. والمخاوف - المشروعة فعلا - التي ما تفتأ شرائح عديدة من المثقفين تبديها وتدعو الدولة إلى التدخل بحزم وصرامة ردءا للأخطار وقياما بالواجب. ثم إن هذه الأصوات ترى من جهة أخرى أن الوجود الحالي لم يعد يسمح بترك الحبل على الغارب في قضية الشأن الديني وتدبيره، وبالتالي فلا مندوحة من الإعلان عن خطة مذهبية صريحة وواضحة حفاظا على وحدة الأمة وحماية لأمنها الروحي ونصرة للإسلام الذي سار عليه المغاربة في تاريخهم وقوامه الوسطية، وقد تجلت في التمسك بالمذهب المالكي مع الالتزام بمقتضيات العقيدة السنية الأشعرية.

الحق أن ما قرأناه في الموضوع، في صفحات الرأي في الجرائد المغربية في الأشهر الأخيرة خاصة، وما كان من الآراء التي أبداها في موضوع التدبير الديني بعض المثقفين المغاربة النابهين في مقابلات وحوارات يستدعي، توطئة للقول في الموضوع، التذكير بحقيقتين اثنتين.

الحقيقة الأولى هي أن الشأن الديني، وتدبيره خاصة، كان دوما موضع عناية قصوى في الإسلام فهو لم يكن، يوما من الأيام، مما يترك فيه الحبل على الغارب. ربما كانت التسمية غائبة والنعت مغايرا لكن المسمى، وهو التدبير الديني، كان موجودا على الدوام، الحق أنه قد شغل من مفكري الإسلام عامة، ومن فقهاء الفقه السياسي خاصة، مكانة محورية في التشريع. مثالنا في ذلك الفقيه الشافعي الأشهر أبو الحسن الماوردي في «الأحكام السلطانية» يفرد المشرع بابا غير قصير لإمامة الصلاة وأحكامها التشريعية وكذا للمسجد وإدارة شؤونه فهو، على سبيل المثال يميز بين «مساجد المرتزقة» و«مساجد المتطوعة». فأما الأولى فهي التي يتقاضى المشتغلون فيها «رزقا»، أي راتبا معلوما، وأما الثانية فهي التي تكون الأعمال فيها تطوعا (إمامة وأذانا وتنظيفا وما إلى ذلك). ولكل من النوعين من المساجد أحكام ينفرد بها، من ذلك إلزام المشتغلين من الخطباء في المساجد السلطانية بارتداء الزى الرسمي للدولة (هو الأسود أيام حكم العباسيين)، كما نجد صاحب «الأحكام السلطانية» يحدد العلاقات القائمة، في إمضاء الأحكام، بين أمير الشرطة والقاضي وأمير البلد والجالس إلى قضاء المظالم. وبالتالي فإن ما يقول عنه علماء الاجتماع اليوم إنه «الحقل الديني»، وكذا ما ننعته بتدبير الشأن الديني، ما كان قط موضع فراغ تشريعي، كما أن الحرص على مراقبة الوعاظ واليقظة المستمرة كان هما ثابتا.

الحقيقة الثانية هي أن الشأن كان في المغرب على النحو ذاته، مع مراعاة جملة الخصوصيات التي ميزت كلا من الوجودين السياسي والاجتماعي في الطرف الأقصى من الغرب الإسلامي، ولعلنا نكتفي بمثال واحد، قوي ومعبر معا، هو مثال السلطان العلوي محمد بن عبد الله بن إسماعيل «محمد الثالث». فالمؤرخون ينعتون هذا الملك بالسلطان العالم تارة والملك المصلح تارة أخرى والمؤرخ المغربي عبد الله العروي يطلق عليه في كتابه «تاريخ المغرب» نعت «مهندس المغرب الحديث».

ففي عصر هذا الملك ظهرت نزعات دينية «أو قل إنها نزعات تتوسل باسم الدين» في مناطق متفرقة من البلاد، كما أن تيار دعاوى غريبة عن الاختيار المذهبي المغربي أخذت تتسرب إلى البلاد، فيبدو منها ما يتهدد الوحدة المذهبية والاستقرار العقدي. وقد يلزم أن أذكر أن محمد الثالث كان يوقع ظهائره ومراسلاته على النحو التالي: محمد بن عبد الله بن إسماعيل المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا. كان السلطان المغربي يهدف بذلك التأكيد على صفة الانتماء إلى المذهب المالكي في الفقه، باعتباره المذهب الرسمي للدولة والاختيار الذي ارتضاه المغاربة أزيد من تسعة قرون قبل تاريخ الإعلان المذكور. وكان يسعى، من جهة أخرى، إلى إبراز العماد السني العميق باعتبار الإمام أحمد بن حنبل (في مجال العقيدة) المرجعية العليا التي يقرها أبو الحسن الأشعري، عمدة العقيدة الأشعرية وزعيمها، في بيانه الاعتقادي الشهير «الإبانة عن أصول الديانة». ثم إن محمد بن عبد الله العلوي حمل علماء القرويين على الالتزام بتدريس رسالة أبي زيد القيرواني في الفقه، وكذا أبواب معلومة من مدونة سحنون ونصوصا محددة. وفي كلمة واحدة نجد عند «مهندس المغرب الحديث» إرادة جلية واختيارا مذهبيا واضحا فيما يصح اعتباره تدبيرا للشأن الديني في المغرب. على أن الأمر لم يكن مما اختص به الملك المذكور وحده وإنما نجد شبيها له عند كل اللاحقين عليه من الملوك المغاربة حتى اليوم، مما لا يتسع المجال لتفصيل القول فيه. بيد أن اتفاقا ضمنيا حينا وصريحا حينا آخر ظل، في الوجود الإسلامي، قائما بين كل من الدولة والمجتمع - بمراتبه ومؤسساته المختلفة - في الأمور التي تتعلق بالشأن الديني وتدبيره.

لا غرو أن الوجود الاجتماعي المعاصر في المغرب، شأنه في ذلك شأن باقي بلاد الإسلام، تتهدده أخطار ومزالق من أصناف شتى (سواء من داخل الإسلام أي من أهل الإسلام، أو من خارجه لدواعي وأسباب مختلفة). كل هذا يستوجب إعادة النظر في التدبير الديني، كيفياته ووسائله وأهدافه. ثم إن المسؤولية في ذلك ليست مما يرجع إلى الدولة وحدها.

أما مجالات التدبير الديني والمؤسسات التي تتصل به في المغرب. وما الجهات الأخرى - خارجا عن الدولة - التي تؤول لها المسؤولية في ذلك؟ هل هم الفقهاء وحدهم أم أن الأمر يعني عموم المثقفين المسلمين؟

سؤالان يقتضي القول فيهما حديثا مفردا.