جولة سياحية في مولد سيدي يوليو

TT

في طفولتي وشبابي المبكر، يعني منذ أكثر من خمسين عاما، كنت من عشاق الموالد، بالتحديد مولد سيدي أبو المعاطي في دمياط، الذي تم إلغاؤه لأسباب ربما تتعلق بالأخلاق أو بالخوف من الإرهاب أو لشدة الحاجة للساحة الشاسعة التي كان يقام عليها وتحويلها إلى أرض بناء. والموالد والاحتفالات بالأولياء في مصر تحديدا ليست لها صلة بالطقوس الدينية والعبادات، بل هي مجرد موالد، أي فرصة للحصول على قدر كبير من البهجة. غير أن المولد الوحيد الذي تمكن من الصمود حتى الآن وربما إلى الأبد هو مولد السيد البدوي في طنطا. هناك أقوال كثيرة تزعم أن هؤلاء الأولياء هم آلهة فرعونية قديمة، تحولوا إلى قديسين مسيحيين في العصر القبطي في مصر، ثم حرص المصريون بعد ذلك حفاظا على استمرار موالدهم على تحويلهم إلى أولياء مسلمين بعد الفتح العربي لمصر. الواقع أن ما يحكيه المصريون عن هؤلاء الأولياء من حكايات خيالية يقطع بعدم وجودهم أصلا، من ذلك أن سيدنا أبو المعاطي في دمياط كان يعمل خواصا، أي يصنع السلال من خوص نخيل البلح، وذات يوم أثناء الحرب الصليبية فوجئ بفصيلة من المماليك تجري هاربة من الصليبيين باحثة عن مخبأ (ربما كانت منسحبة إلى الخط الثاني) فطلب منهم أن يدخلوا تحت واحدة من السلال التي أخفتهم جميعا عن أعين مطارديهم، وحدث بالفعل أن وصلت فرقة من الجنود الصليبيين في أعقابهم فوجدته يعمل بهدوء، فسألته: هل رأيت مجموعة من جنود المماليك؟

فأجاب: نعم..

فعادوا يسألونه في لهفة: أين هم.. أين ذهبوا.. أين اختبأوا..؟

فأجاب ببساطة: هم مختبئون تحت هذه السلة..

أدركوا أنه رجل مخرف، أو أنه يسخر منهم، فالسلة تصلح فقط لإخفاء طفل صغير، فانصرفوا لحال سبيلهم. لست أذكر له معجزات أخرى غير ذلك الإحساس الجميل في طفولتي وأنا أتجول في مولده الصاخب الجميل. أما السيد البدوي فكان هو الآخر من بين هؤلاء الأبطال الذين خاضوا معارك ضد الصليبيين وتخصص في القبض على الأسرى (الله الله يا بدوى.. وجاب اليسرى)، وهو يتميز بأنه كان يضع على وجهه لثاما طول الوقت، لذلك لا أحد من مريديه شاهد وجهه، أما الأمر الذي لا يمكن تصديقه، فهو حجم «المهراشة» الخشبية التي كان يستخدمها في هرش ظهره، والمحفوظة بين حاجياته، فطولها أكثر من مترين (أعترف بأني لم أرها، لقد سمعت من أصدقائي بوجودها وبمواصفاتها فقط)، وهذا معناه أن طوله كان نحو عشرة أمتار أو أكثر، وهو الأمر المستحيل، غير أنه في وجود الأولياء والمعجزات لا شيء مستحيل.

وفي بداية الأربعينات في القرن الماضي ظهرت موجة عنيفة ضد هذه الموالد، بعد أن تزايد عددها إلى درجة أن الحارة الواحدة أحيانا كان يوجد بها مولدان لاثنين من أولياء الله، ولكي يقنع أعداء الموالد الحكومة بوجاهة أفكارهم، قالوا إن أنوار الكلوبات المضاءة في هذه الموالد تشكل خطرا عسكريا على القوات الإنجليزية لأن الطائرات الألمانية تسترشد بها في ضرب مواقع الحلفاء، غير أن المسؤول عن مباحث أمن الدولة في ذلك الوقت وهو إنجليزي خريج كامبردج، كتب كتابا عن الموالد في مصر (هيئة الكتاب، مكتبة الأسرة) أهداه للملك فاروق وحذر فيه من المساس بهذه الموالد لأنها أرخص مصادر للبهجة في مصر، وأنه بغيرها سيزداد التوتر والإحساس بالتعاسة داخل الشعب المصري إلى درجة ربما تؤهله للثورة.

أما مولد سيدي يوليو الذي أقيم الشهر الماضي وانتهى أمس البارحة، فقد أقيم على شاشات التلفزيون بوصفه أوضح إنجازات يوليو، وإذا كانت الموالد بطبيعتها تحتوي على كل شيء يمكن تصوره، فإن مولد سيدي يوليو كان ينقصه شيء واحد هو الديمقراطية كما أجمع على ذلك أصحاب المولد وخصومه على حد سواء، بعد أن اتضح للجميع أن الديمقراطية كانت أحد أهداف الثورة الستة التي عجزت عن صنعها أو بمعنى أدق تجسيدها على الأرض. لم يقلها أحد وهو يستشعر حسرة أو ألما، بل يقولها على طريقة «لقد أنجزت يوليو كل شيء ما عدا الديمقراطية»، تماما كما تقول الزوجة «أنا وزوجي لدينا كل شيء، فقط ينقصنا الحب»، أو كما تقول عن أحد الممثلين إنه ممثل ممتاز تنقصه الموهبة فقط.

وإذا كانت كل الموالد بطبيعتها تدفع في الإنسان قدرا من البهجة الناتجة عن تذكر جمال الماضي وعظمته، فقد كان من السهل أن ترى في أنحاء المولد جماعات من أصحاب الطرق الصوفية الاشتراكية في حلقات الذكر يذكرون فيها الاشتراكية الجميلة ويلعنون ذلك الزمن الذي يتم فيه بيع القطاع العام للمصريين والأجانب، وما يترتب على ذلك من حرمان أصحاب الوظائف العامة من الاستمتاع بأموال المودعين في البنوك التي كانوا يحصلون عليها لتغطية خسائرهم. الإحساس بالمولد أيقظ بداخل كل رواده الإحساس بأمجاد وإنجازات الماضي، ما عدا الذكريات الموجعة بالطبع، فالموالد بطبيعتها لا تعرض إلا كل ما هو مبهج، هكذا شاهدنا برامج التلفزيون الأبيض والأسود الممتازة التي كان يقدمها بشر أكثر امتيازا. ترى ماذا فعلت يوليو بعملية التوالد الطبيعية في المجتمع؟ ماذا حدث لعملية الإحلال والتبديل الطبيعية؟ لماذا لم نحصل على سلوى حجازي وأماني ناشد وليلى رستم وغيرهن مرة أخرى؟ من أين أتت هاته النجمات بهذا الكم والكيف من الرقة والجمال والذكاء والأنوثة والثقافة العالية؟

وأتجول في المولد على الشاشة الصغيرة أتابع في إشفاق محاولات الأجيال الجديدة. المساكين مطلوب منهم الاشتراك في مولد قرأوا عنه عدة سطور فقط في مرحلة الدراسة الإعدادية. كان من المستحيل بالطبع استدعاء أبطال المرحلة، غير أن تلك العقبة لا يجب أن تثنيهم عن الاشتراك في المولد، فاستدعوا أبناء بعض الضباط الأحرار، وكأن ثورة يوليو انتقلت إليهم عبر الجينات، وفي لهوجة الإعداد والتسرع يستدعون شخصا هو ابن أحد العاملين مع محمد نجيب، وتقدمه المذيعة بوصفه المستشار السياسي للرئيس نجيب «ومعنا الآن المستشار السياسي للرئيس محمد نجيب.. يا سيدة المستشار، من فضلك.. نريد أن نعرف منك..»..

وهنا يقاطعها الرجل «لا.. لست أنا.. أبي هو من كان يعمل مستشارا له»..

غير أنها تصرفت بذكاء الحاوي فقالت: «نعم، نعم.. غير أن والدك من المؤكد أنه حكى لك عما حدث وعما كان يفكر فيه محمد نجيب.. في صراعه مع عبد الناصر، ماذا قال لسيادتك..؟»..

فرد عليها «لم يقل لي شيئا.. لقد كنت في الرابعة من عمري في ذلك الوقت»..

وأسقط في يد المذيعة.. هيه.. مولد.