جولة الملك عبد الله وأفقها التاريخي

TT

يشكل تحرك الملك عبد الله باتجاه مصر وسورية ولبنان، تحركا ذا أفق استراتيجي. وتنبع أهمية هذا التحرك من مسائل عدة. فهناك أولا مكانة الملك عبد الله الشخصية، فهو يحظى باحترام خاص من قبل الملوك والرؤساء الذين يزورهم. وهو يمثل دولة ذات وزن داخل المحيط العربي، وتحظى هذه الدولة بعلاقات دولية لا يمكن تجاهل قيمتها. وهو يتحرك سياسيا، وبين دول عربية متخاصمة أو مختلفة، وفي وقت يستنكف فيه قادة آخرون عن الفعل والحركة، حتى ليمكن القول إن التحرك العربي يكاد يقتصر على سورية التي تتحرك عربيا وإقليميا ودوليا لتعزيز مكانتها، وعلى السعودية التي تحاول جاهدة إنجاز مصالحات عربية، وبلورة حالة تضامن غائبة.

ولهذا التحرك السعودي مستويان، مستوى المصالحات الشخصية بين الملوك والرؤساء العرب، ثم مستوى التوافق على نهج سياسي واحد في مواجهة المخاطر التي تحيط بالمنطقة. ويرتبط الأمران معا برباط وثيق، فالخلافات الشخصية تستند إلى الخلافات السياسية، والخلافات السياسية تتغذى من الخلافات الشخصية. وإذا كان من الممكن تجاوز الخلافات الشخصية، فإن المسألة الأعمق والأخطر هي الخلافات السياسية، والحاجة إلى نهج سياسي عربي موحد، تلتقي حوله الوساطات والجهود. وعند هذا النهج السياسي الموحد تتركز الأنظار، وتختلف الرؤى، وهو ما لا بد أن يتصدى له الملك عبد الله في مهمته الاستراتيجية الراهنة.

لقد نجح الملك عبد الله حتى الآن في تحقيق تقدم ملموس في موضوع العلاقات اللبنانية - السورية، وذلك بعد أن تجاوبت سورية مع جهوده، ومارست سياسة مرنة في لبنان أتاحت لوساطات الملك عبد الله أن تحقق خطوة نجاح مهمة. والعلاقة التي تقوم الآن بين الرئيس بشار الأسد وسعد الحريري رئيس وزراء لبنان، تكاد تكون علاقة متميزة، وضعت الخلافات الشخصية وراءها، رغم حساسيتها، واتجهت نحو بناء نهج توافق سياسي، أصبح يحقق بعض النجاحات، رغم مصاعب كثيرة لا تزال قائمة على الأرض. وهو إذ يواصل الآن مساعيه، وبتعاون سعودي - سوري مشترك، فمن أجل حل المزيد مما يبدو كخلافات شخصية تتعلق بالمحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق في مقتل الشهيد رفيق الحريري، وتداعيات وملابسات هذا التحقيق، الذي أبعد سورية عن بؤرة الاتهام، لكنه أدخل إلى الحلبة اتهامات لأطراف أخرى، تتولد عنها حساسيات من نوع آخر، لها أيضا مخاطرها التي لا يستهان بها.

هنا يدخل الموضوع الإسرائيلي على الخط، ويكاد هذا الخط الإسرائيلي يكون حالة تصادم مع الجهد السعودي - السوري. يمثل الموضوع الإسرائيلي حالة تتجاوز التصادم السياسي إلى احتمالات التصادم العسكري، إذ لا يمكن لأحد أن يتجاوز ثلاثة أمور خطيرة هنا:

الأمر الأول: حالة الاستعداد العسكري التي بدأتها إسرائيل منذ انتهاء حرب عام 2006، ولا تزال مستمرة حتى الآن، عبر مناورات عسكرية متصلة، سارت كلها في نهج متصاعد واضح الدلالة.

الأمر الثاني: تناغم المناورات العسكرية الإسرائيلية مع دعم أميركي متصل لإسرائيل، تصاعد في عهد الرئيس أوباما بدل أن يتراجع. وهو دعم ذو طبيعة استراتيجية تأخذ عناوين (القبة الحديدية)، أي الصواريخ المضادة للصواريخ، وبنوعيها: البعيدة المدى والقريبة المدى.

الأمر الثالث: التهديدات الإسرائيلية المباشرة للبنان، التي كان آخرها إعلان وزير الدفاع إيهود باراك أن إسرائيل ستستهدف كامل المؤسسة اللبنانية إذا ما نشبت مواجهة بينها وبين حزب الله. ويتولد عن هذه التهديدات احتمال تطور أي مواجهة عسكرية إسرائيلية - لبنانية، إلى مواجهة عسكرية إقليمية، وهو خطر لا يمكن الاستخفاف به.

ولا يقتصر دخول إسرائيل على الخط على الموضوع اللبناني، بل هو يشمل القضية الفلسطينية أيضا، وهنا تبرز ظواهر ذات دلالة.

ظاهرة التعنت الإسرائيلي الذي يرفض علنا الالتزام بالدعوات الدولية لأسس المفاوضات مع الفلسطينيين، وأبرزها رفض الالتزام بمبدأ حدود 1967، ورفض الالتزام بمبدأ وقف الاستيطان، وهو أمر يهدد إمكانية الوصول إلى المفاوضات المباشرة التي بدأت إسرائيل تصر على ضرورة الوصول إليها.

ظاهرة التحرك الإسرائيلي على الصعيد العربي، حيث يسعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومن خلال زيارته إلى الأردن، إلى كسب تأييد عربي لموقفه ضد المطالب الفلسطينية الشديدة الاعتدال. وبحسب ما نقلته الأنباء عن لقاء نتنياهو مع ملك الأردن، فإن ما طرح في هذا اللقاء من شأنه أن يثير مخاوف الأردن أكثر فأكثر، بدلا من أن يقنعه بالموقف الإسرائيلي، أو ببذل مساع لإقناع السلطة الفلسطينية بالذهاب إلى المفاوضات المباشرة، فهو يريد من ملك الأردن أن يقنع الفلسطينيين بشروط نتنياهو للمفاوضات المباشرة، وأولها الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وهو أمر يصعب تحقيقه لأسباب فلسطينية وأردنية (احتمال الترانسفير). وهو يريد انتزاع قبول الأردن بأن تتضمن أي تسوية جديدة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وجود قوات إسرائيلية على امتداد نهر الأردن، وهو أمر يهدد الأردن كما يهدد مبدأ إنشاء دولة فلسطينية.

وفي محاولة يائسة لتجاوز هذه المخاوف الأردنية التي يثيرها الموقف الإسرائيلي، يحاول نتنياهو إغراء الأردن باقتراح إنشاء خط حديدي يربط العقبة بميناء أسدود (عسقلان)، عبر إيلات، بحيث يصبح للأردن منفذ على البحر الأبيض المتوسط. ويحاول نتنياهو هنا تحويل التسوية السياسية من تسوية إسرائيلية - فلسطينية إلى تسوية إقليمية.

وتحظى هذه السياسات الإسرائيلية دائما بدعم أميركي، ويعبر هذا الدعم عن نفسه بضغط أميركي متواصل على السلطة الفلسطينية لكي تقبل الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وعبر رسالة ضمانات إلى محمود عباس حملها ديفيد ميتشل، تتعهد بأن تدعم أميركا مبدأ حل الدولتين الذي يعرقله نتنياهو، وهي ضمانات تبين دائما أنها لا قيمة لها.

وبديهي أن سورية لا تستطيع أن تكون بعيدة عن كل هذا الذي يجري في لبنان وحول لبنان، ولا أن تكون بعيدة عن هذا الذي يجري من قبل إسرائيل تجاه السلطة الفلسطينية، أو تجاه الأردن، أو تجاه مصر.

لذلك، وبسبب هذا كله، فإن جولة الملك عبد الله، خاصة في سورية ولبنان، تجد نفسها فجأة في مواجهة هذا الوضع السياسي المعقد، الذي لا بد له أن ينتقل من أفق المصالحات الضرورية والمفيدة، إلى أفق رسم نهج سياسي عربي. وعلى النهج السياسي العربي المنشود أن يحدد تكتيكا عربيا جديدا في التعاطي مع إسرائيل، خاصة في قضية مفاوضات التسوية العبثية القائمة. وأن يحدد موقفا عربيا جديدا في التعاطي مع الدعم الأميركي المتصل لإسرائيل في خطواتها العملية المعادية للعرب. وبهذا تتضح أهمية جولة الملك عبد الله، وتتضح أهمية القضايا التي لا بد أن تبحثها، وأن تتقدم باتجاه إيجاد جواب عنها.

وبهذا أيضا يمكن القول إن جولة الملك عبد الله يمكن أن تكون جولة ذات بعد تاريخي، وهو ما يأمله الجميع، من أجل تجاوز قرارات مجلس جامعة الدول العربية التي دفعت الأمور نحو الوراء.