البضاعة الغائبة

TT

أيام قليلة ويطل علينا شهر رمضان المبارك بنفحاته الطيبة وفضله الكبير.. أيام قليلة ويبدأ السباق السنوي نحو إحياء الطاعات والعبادات وأعمال الخير بشكل واضح ولافت. السباق على برامج إفطار صائم وموائد الخير التي تنتشر في الأحياء الشعبية وبيوت الله وإحياء الصلوات والتهافت على أصحاب الأصوات المميزة والدعاء الخاشع وكأنها ملاحقة لنجوم كبار فتتكدس الشوارع وتغلق الطرقات.

وهناك الكثير من مظاهر ومشاهد العبادات التي باتت مرتبطة برمضان؛ هناك مؤشر مثير للاهتمام يلاحظه بعض علماء الاجتماع في المجتمعات العربية من العالم الإسلامي، وهو الاهتمام الشديد بالعبادات على حساب السلوكيات، فمع الارتفاع بـ«مظاهر» العبادات والترويج الدائم لها، إلا أن مؤشرات معدلات استشراء الفساد والتقاعس عن العمل والعنصرية بلغت معدلات مذهلة وضعت الكثير من الدول العربية في العالم الإسلامي في مقدمة الدول في قوائم الفساد وقلة الإنتاجية والتفتت الاجتماعي، مما يوضح الخلل الكبير بين وظيفة الدعوة وربطها تماما بالسلوك والأخلاق.

فلا يمكن أن يكون مقبولا حجم التدافع بالشكل الذي نكون عليه في رمضان وإغلاق الشوارع دون مراعاة لحقوق المارة ولا السيارات السائرة، كما لا يمكن أن يكون مقبولا الصرف المهول على موائد رمضان المنزلية بحيث تفوق نسبة الصرف الرمضاني أضعاف الشهور الاعتيادية الأخرى، ولا أن يكون الصرف على موائد رمضان على حساب الصرف على وسائل احتياجية وضرورية أخرى مثل العلاج والإيواء، فتصبح بالتالي موائد رمضان هي من باب المباهاة والمفاخرة والعادة بدلا من تحقيق مسألة التوازن الاجتماعي وتلبية الاحتياج الحقيقي فيه.

ظاهرة «البزنس الرمضاني» أو الاستفادة القصوى من هذا الشهر الفضيل تكون على الأصعدة كافة، سواء الإعلامية فيه كإنتاج الدراما التلفزيونية التي حولت هذا الشهر إلى شهر الذروة في الإنتاج والمشاهدة التلفزيونية، أو في المجال الاستهلاكي الذي يقدر له التجار ميزانية إعلان وترويج مستقلة تصل إلى أن بعض المنتجات يروج لـ80% من ميزانية السلعة خلال شهر رمضان وحده. ولا يغفل عن ركوب الموجة الإعلام الديني ولا التسويق الديني، فهما أيضا يقومان بحملات دعائية وترويجية ضخمة واستثنائية للإعلان عما لديهما من جديد خلال الشهر الكريم.

القصور الكبير في التعامل مع القضايا الأخلاقية والسلوكية كمواجهة الأمية وتحدي النظافة والتفرقة العنصرية واحتقار المرأة وسوء الإنتاجية في العمل والفساد المالي يجعل من كل خطابات الترويج للعبادات ناقصا وأقرب لقصص الخيال العلمي، لأنها غير مرتبطة بسبب البعثة النبوية الأساسي (على صاحبها أزكى صلاة وأطهر سلام)، وهي تتمة مكارم الأخلاق، وهذا لب الموضوع وأهم مشكلات الدول العربية في العالم الإسلامي؛ فازدراء الخطاب الديني المتطرف للعلوم غير الشرعية ولّد عداوة كبيرة مع العلم كمفهوم تنموي وأخلاقي وساهم في الفجوة بين العالم الإسلامي والآخر. وكذلك الأمر بالنسبة لمسألة التعامل مع المخالف سواء من أهل المذهب أو الدين أو الأديان الأخرى، كأن يؤخذ فيها آراء تخالف نهج السنة الفعلية للرسول (عليه الصلاة والسلام)، فوّلد شعورا راسخا بالغضب بسبب قصور في الفهم والجهل المتفشي في علوم الدين، مما شجع الهوس بالفتاوى الصغيرة التي لا تقدم في حياة المرء من شيء، وسبب إغفالا تاما للمسائل الأخلاقية الأساسية التي عليها تستقيم المجتمعات وتبنى القيم والأخلاق والمعاني والفضيلة. خلل في الأولويات لا يمكن إلا أن يوّلد العلل والآفات.

رمضان قادم «ببضاعة» ولكن لا تزال البضاعة الأهم غائبة عن واجهات العرض، وهي مكارم الأخلاق.

[email protected]