التحدي الإقليمي.. ومهمة الإنقاذ الصعبة

TT

«تعلم من الماضي.. وعش الحاضر.. وتفاءل بالمستقبل» (ألبرت آينشتاين)

القمة الثلاثية التي استضافها لبنان في الأسبوع المنصرم، حدث مهم جدا سواء بالنسبة للأزمة اللبنانية أو الوضع العربي.

فالإدارة الأميركية مرتبكة وموزعة الاهتمامات على جملة من التحديات. ومن سوء حظها أن آمالا كبيرة عقدت عليها بعد عهد جورج بوش الابن وتركاته المزعجة. وبمرور الوقت تبين كم هي خاطئة المبالغة في التفاؤل بقدرة باراك أوباما على اجتراح الأعاجيب، وتوهّم أن شخصا - كائنا ما كانت نياته وإمكانياته - أكبر من «مؤسسة سلطة» تستند إلى ثقافة سياسية، وترتبط عضويا بمنظومة من المصالح المعقدة التي تحول دون الظواهر الثورية أو الانقلابية.

وبالتالي، نجد منطقة الشرق الأوسط، في حالة من القلق إزاء عجز الإدارة الأميركية عن، أو انعدام رغبتها في، رسم «خريطة طريق» لمقارباتها مع مشكلات العرب والمسلمين.

وإزاء مشروع إيراني طموح جدا.. غدا جلي الأبعاد لكل المعنيين بشؤون المنطقة، ووسط استمرار الارتهان الأميركي شبه الكامل للمنظور الإسرائيلي لأي علاقات مستقبلية مع العرب والمسلمين، تظهر «الحالة العربية» - الضعيفة أصلا - أكثر ضعفا، وتغدو شرعية النظام العربي برمّته على المحكّ. ومن هنا، كان بديهيا أن تبادر القيادتان السعودية والسورية إلى التحرك بسرعة نحو أخطر ثغرات «الحالة العربية» التي ربما ما زال بالإمكان لجم التفجّر فيها.. ألا وهي لبنان.

فـ«الحالة الفلسطينية» أسوأ مما يتيسّر علاجه عبر لقاءات عربية كلقاء بيروت، لأن العنصر الإسرائيلي فيها عنصر فاعل ومباشر. وأيضا «الحالة العراقية» أكثر تعقيدا من أن تعالج بلقاء من هذا النوع، لأن فيها عنصرا إضافيا للانقسام الداخلي السني - الشيعي.. هو العنصر الانفصالي عند غلاة القيادات الكردية.

ولكن، حتى في لبنان تدرك القيادتان السعودية والسورية، أن الكلام الطيب شيء والفعل الحقيقي على الأرض شيء آخر. ولئن كان اللبنانيون يرجون في قرارة أنفسهم أن يعمّ الاستقرار كل أجزاء بلدهم، فمن السذاجة المطلقة التوهّم أن هذا الرجاء في حجم المطامع الفئوية والولاءات - بل «الاستلزامات» - الإقليمية على الساحة اللبنانية.

ثم إن لكل من العاصمتين تجارب طويلة مع الساسة اللبنانيين ومع الشارع اللبناني الذي ما فكّر يوما أن يحاسب ساسته ويسائلهم عن مغامراتهم ورهاناتهم. وهو حتما ليس في وارد المحاسبة والمساءلة اليوم.. بعدما استمرأ العيش على الصَّدَقة والهبات والإعانات.

مع هذا، ارتئي أن الشعب اللبناني ما زال يستحق الإنقاذ. وارتئي أن لبنان يستحق منحه فرصة أخرى للابتعاد عن شفير الهاوية. إلا أن ثمة حقائق من الواجب التنبّه لها، في مقدمها ما يلي:

أولا: أنه مهما خلُصت نيّات الأشقاء، فمهمّة إنقاذ لبنان يجب أن تقع على أبنائه. فلا بد من تفاهم داخلي في العمق يأتي بمنأى عن التهديد أو الابتزاز الأمني. وطالما وُجد في لبنان أفرقاء جاهزون في أي لحظة لهدم الهيكل على رؤوس الجميع، فالأمل معدوم في أي إنقاذ.

ثانيا: إن اللبنانيين، وإن توهّموا في الماضي أنهم أسياد أنفسهم، فالعقلاء منهم يدركون اليوم أنهم عاجزون تماما عن إخراج «الدببة التي استدعوها إلى كرومهم» منها.

ثالثا: سيظل لبنان جرحا إقليميا نازفا وثغرة أمنية كبرى، طالما استمرت لعبة الشطرنج الإقليمية. والواضح من تراكم التجارب أن أطرافا إقليمية كثيرة يناسبها أن تبقى «البؤرة» اللبنانية صندوق بريد ترسل عبره الرسائل إلى من يعنيه الأمر، وتمارَس فيها المشاغبة والمناوشات المفيدة في رسم الاصطفافات الإقليمية وتحديد سقوفها وأثمانها.

رابعا: إن لبنان، مهما اهتم به المهتمّون، مجرّد جزء من صورة إقليمية محبطة ومخيفة في أبعادها. وعليه، فالاهتمام العربي المشكور ينطلق من اعتبارات أكبر من لبنان وأوسع من حدوده.

كون الوضع الإقليمي الخطير يمر اليوم في «عنق زجاجة».. واقع يعكسه جزئيا الكلام المتصاعد لقيادات حزب الله في لبنان عن أن المحكمة الدولية المشكّلة للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، «إسرائيلية». وهذا الكلام من حزب ذي صلات إقليمية استراتيجية يشكّل مؤشّرا مقلقا لمستقبل لبنان ووجوده.. ليس فقط لأنه يستبق نتيجة التحقيق، بل لأنه يعتبر أيضا أن ثمن بقاء المحكمة وتقبّل قراراتها هو الفتنة الداخلية، ولأنه يشير إلى أن ثمّة قوى نافذة في لبنان ترفض وجوده كدولة ولا تعترف بالمؤسسات الرسمية والدولية الناظمة لعلاقات الأفراد والدول.