من أحوال إلى أوحال

TT

إن مما يقتضي التبصر فيه النهوض المفاجئ لشعب من الشعوب. ينطبق ذلك في عصرنا هذا على اليابان وكوريا الجنوبية ونحوهما مما يسمى بدول النمور. هذا شيء تستهويني متابعته. بيد أن شيئا آخر على عكس ذلك يستهويني أكثر منه. وهو التدهور المستمر لشعب ناهض. ينطبق ذلك بصورة خاصة على العراق.

إن معظم هذا التمدن والرقي والتقدم العلمي والتكنولوجي يعود الفضل الأول فيه إلى ما تفتق عنه ذهن ابن وادي الرافدين في العصور الخوالي. يكفينا أن نشير هنا إلى اختراعين من الاختراعات الأساسية لذلك المواطن. وهما الحروف الصوتية والعجلة. لم يكن بالإمكان قط إنتاج هذه الصحيفة من دون اختراع الحروف الصوتية. يمكن للغرب أن يبتدع شتى الكومبيوترات والأقمار والمعدات الدقيقة ولكنها ستكون عقيمة كليا من دون الحروف.

نحن نفترض أن هذه العجلات الأربع التي تسير عليها سياراتنا شيء عادي لا يستحق النظر. ولكنه على بساطته لم يكن بإمكان البشرية أن تحرز أي تقدم من دونه. والفضل كل الفضل يعود للمواطن العراقي الذي اخترع العجلة. المؤسف أنه نسي أن يسجل براءة اختراعه. العراقيون ينسون دائما منجزاتهم. ولكن على أي حال لم يكن هناك مكتب لتسجيل الاختراعات. هذا المكتب من اختراعات الغرب الذي راح يفرض علينا أعلى الأسعار عن أي شيء نريد الحصول عليه منهم. إنهم يسمونه أسرار التكنولوجيا. المخترع العراقي المسكين لم يفرض عمولة على أي أحد اقتبس منه صناعة العجلة. لو قدر له ذلك لأصبح العراق أغنى بلد في العالم. تصوروا لو أنه فرض عمولة ولو بمقدار فلس واحد عن كل عجلة تستعمل في العالم. كم سيكون دخل العراق سنويا؟

ومع الحروف والعجلة وضع أول شريعة في تاريخ العالم، قانون حمورابي. ومنهم شاعت أفكارها بين الملل. كل ذلك قبل قرون وقرون. وانظروا ما آلت إليه أحواله. البلد الذي اخترع الحروف الأبجدية لم تتجاوز نسبة القادرين على القراءة عند تأسيس المملكة العراقية في 1920 عشرة في المائة من السكان. والبلد الذي اخترع العجلة لم يعد قادرا على استعمالها لانعدام الطرق اللازمة لسيرها فالتجأ الناس لاستعمال التخت روان، واسطة النقل العجيبة التي تعتمد على حمارين يقومان بمهمة العجلات. توضع بينهما خشبة يقعد عليها المسافرون ويمشون ببركة الله.

والآن هذا البلد الذي أعطى البشرية أول قانون أصبح أول دولة في العالم في انهيار القانون. وهو ما أوحى للمالكي بتبني شعار «دولة القانون»، عسى ولعل! أمر حمورابي بنقش شريعته على صخر لئلا ينساها الناس، ونصب المسلة التي تحمل نص هذا القانون وسط مدينة بابل. وكان أهل بابل يقرأون. يمرون أمامها ويقرأونها ويتعلمون منها كيف تبنى الحضارات. لم يقم بمثل ذلك نوري المالكي لأنه كان يعرف أنه لو فعل هذا لجاء الحرامية في الليل ودفعوا للحارس ورقتي دولار وسرقوا المسلة.

فقولوا معي سبحان مغير الأحوال من حال إلى أوحال.