تعريب الدور السوري في لبنان

TT

سورية عائدة إلى لبنان! هذا كلام خطير يذكِّر بسلبيات التجربة السورية المرة في هذا البلد الشقيق الصغير. لكن سورية بشار غير سورية الأب. بشار لم يجد ضرورة لإبقاء عسكره هناك. شبكة الخيوط التي أحكم الأب مدها إلى حلفاء وأنصار من كل الطوائف، عَوَّضت الابن عن الوجود العسكري.

بعد المصالحة مع السعودية، انتقلت سورية إلى علاقة جديدة مع لبنان: من شد الخيوط مع الحلفاء. إلى بناء علاقة مؤسسية مع الدولة اللبنانية، ممثلةً بالرئاسة. والحكومة. وبرلمان نبيه بري حليف سورية الأول. علاقة مؤسسية تديرها مهارة الدبلوماسية السورية، بعيدا عن سلبيات الأجهزة الأمنية.

أمن لبنان من أمن سورية. والعكس صحيح. سلوك بشار بعد التشكيل الصعب لحكومة الحريري الابن، أكد للبنانيين رغبة سورية في المحافظة على استقرار لبنان: أمنه. حكومته. الهدنة بين طوائفه. أحزابه. تياراته. العلاقة الشخصية السريعة التي نجح الحريري الابن، في إقامتها مع الأسد الابن، مكَّنت السعودية من الارتقاء بالعلاقة الثنائية مع سورية، من مرحلة المصالحة. إلى مرحلة إدارة مشتركة للأزمة اللبنانية.

الآن، تدخل العلاقة الثنائية مرحلة جديدة: من إدارة الأزمة إلى «محاولة حلها». من المصالحة إلى التفاهم على تجاوز نقاط الاختلاف في التفاصيل، إلى الاتفاق على تجنيب لبنان ردود الفعل الداخلية فيه، على الصراعات الإقليمية والدولية للفوز به.

أكون أكثر صراحة عندما أقول إنه لا بد من الاعتراف بأن التفاهم الثنائي لم يرق، بعد، إلى اتفاق كامل شامل، لتنسيق السياسات والتحالفات السعودية/ السورية في المنطقة. لكن في لبنان بالذات تمكنت السعودية، في هذه المرحلة الصعبة، من استعادة دور النظام العربي المتراجع، أمام الأدوار الإقليمية والدولية (الإيرانية. التركية. الإسرائيلية. الأميركية..).

الصورة هذه المرة لعبت دورا كبيرا في تظهير شفاف وحاسم للدور العربي. يد الرئيس بشار بيد الملك عبد الله أمام العرب والعالم. أين؟ في قصر بعبدا، مقر الشرعية اللبنانية. وإذا شئت القول: في مقر المؤسسة المسيحية السياسية والرسمية المحايدة في الصراعات الطائفية والحزبية، والمتقبلة بترحاب كبير من الرئيس ميشال سليمان للمظلة العربية للبنان.

هذه الصورة ليست مجرد لقطة تذكارية عابرة، لملك جليل ورئيس شاب. إنها وثيقة «تعريب» الدور السوري في لبنان الذي افتقر، قبل وبعد اتفاق الطائف (الذي وضع حدا للحرب الأهلية)، إلى موافقة عربية.

هذا التقريب لم يكن يحدث، لولا موافقة السعودية بالذات. ولولا العلاقة الصادقة التي بناها بشار مع مؤسسات الشرعية اللبنانية، من دون أن يتخلى عن علاقة سورية مع حلفائها وأنصارها. تماما كما لم تتخل السعودية عن أنصارها وحلفائها هناك.

الواقع أن الاتفاق الثنائي لم يكن ممكنا، لارتباط سورية والسعودية العاطفي والسياسي بهؤلاء الأنصار والحلفاء المتهادنين حينا. المتناحرين أحيانا.

ماذا يعني تعريب الدور السوري في لبنان؟ بصراحة أيضا. سورية عائدة لردع أطراف الصراع عن تجاوز «الخطوط الحمر». عائدة لفرض احترام الشرعية الدستورية. للالتزام باتفاقي الطائف والدوحة. للمحافظة على حكومة الوفاق الوطني برئاسة سعد الحريري. لا نزول إلى الشارع. لا اعتصامات مسلحة بـ«الأراكيل» تعرقل مجرى القناة الاقتصادية.

التطبيق الميداني للدور السوري المطلوب يعني، أكثر ما يعني، حركة حزب الله الأخيرة، من دون تخلي سورية عن دور الحزب كحركة مقاومة. ومع تفهم سعودي لوجود هذه المقاومة المسلحة (سوريا وإيرانيا)، إلى جانب تعزيز قوة الجيش اللبناني (بعتاد أميركي). كل ذلك كرادع لإسرائيل، يمنع اعتداءاتها واجتياحاتها العشوائية التي روعت هذا البلد العربي الصغير.

من دون التخلي عن حلفها الراهن مع إيران، فسورية لا ترغب في أن تهز حليفتها إيران استقرار لبنان، من خلال استخدام حزب الله ضد الشرعية اللبنانية والديمقراطية التوافقية. بل باتت سورية ضد استخدام إيران للحزب، لتعريض الأمن القومي العربي للخطر، في اشتباك غير متكافئ مع إسرائيل، ينعكس على لبنان دمارا وهلاكا.

البيانات السياسية والإعلامية الصادرة عن الزيارة الثنائية الخاطفة استخدمت تعبيرا ميدانيا جديدا: «رفض استخدام العنف» في لبنان. لا شك أن النصيحة التحذيرية هنا موجهة إلى حزب الله، بعد التهديدات التي أطلقها مرشده وزعيمه، ليس فقط ضد خصومه الذين لجأوا إلى العدالة الدولية، للاقتصاص من قتلة الحريري الأب، وإنما يريد أيضا إلزام الدولة اللبنانية، برفض أي قرار اتهامي للحزب بارتكاب الجريمة، ومنعها من ملاحقتهم والقبض عليهم، لتقديمهم إلى المحكمة!

كسبت سورية مصداقية متجددة لدى اللبنانيين والسعوديين، بعد استبعادها المرجح من الاتهام في قضية الحريري. حتى في ذروة «الاتهام» لها، لم تهدد سورية بـ«خربطة» لبنان. كما فعل حسن حزب الله. سورية لم تقبل، كما أظن، بهذا المظهر الجديد لرجل الدين المتسيس: شاشة عملاقة. نظرة تهديدية ماكرة. لسان قادر على حبك رواية شعبوية «مقنعة» للبسطاء ضد المحكمة. ضد الدولة. ضد حكومة الحريري.

هل سورية قادرة على منع الحزب من تجاوز «الخطوط الحمر»؟ سورية قادرة سياسيا، من خلال مصداقيتها الجديدة. ومن خلال تعريب دورها. ميدانيا، سورية لم تعد تملك قوة عسكرية في لبنان. ربما هي قادرة على العودة المؤقتة أمنيا وعسكريا إلى سهل البقاع المجاور، حيث الخزان البشري والطائفي للحزب. بالإضافة إلى أن سورية تملك التأثير على حلفاء الحزب المسيحيين (ميشال عون وسليمان فرنجية) ولدى حلفائه السنة (عمر كرامي). سحبهم من عباءة الحزب يفقده غطاءه الوطني.

«خليك في البيت» لسماع حسن حزب الله اليوم (الثلاثاء). إذا لم يؤجل الظهور على الشاشة. لعله يقدم الرد الإيراني على حركة النظام العربي (السوري/ السعودي) للردع في لبنان. السيد حسن قد تكون لديه معلومات سورية عن استعداد السعودية، لاستخدام نفوذها الدولي لهدهدة «العدالة العمياء» التي قد يهدد قرارها الاتهامي استقرار لبنان وأمنه.

رفض السيد حلا على الطريقة الليبية. بعد التحول السوري، السيد قد يتراجع. قد يقلِّد ليبيا في تقديم «مقرحي» حزبي توجه إليه تهمة الاغتيال، بغير «علم وخبر» من قيادة الحزب. «مقرحي» يعفيه من الملاحقة، فيما يظل المقرحي المريض محرجا لنظام ليبيا، في بقائه على قيد الحياة.

تجنيب حزب الله ويلات الإصبع الدولية الممتدة إليه بالاتهام، يتطلب تغطية أصعب من تغطية أسرار إيران النووية. وإلا، فسيجد حسن حزب الله نفسه مع الرئيس عمر البشير في دائرة اتهام واحدة، فيما يبقى مشعلو حروب العراق. أفغانستان. باكستان، خارج متناول العدالة الدولية!