بيني وبينك.. وبينهم!

TT

ما هي الأسرار القومية العليا التي يجب صونها عن التناول العام؟

طرح هذا السؤال مهم في ظل حالة انهيار السدود بين الخاص والعام، بين ما تملكه خزائن وملفات أجهزة الدولة، وما يتداوله العموم من الناس في الإنترنت والهواتف الجوالة، خصوصا الجيل الذكي منها وفي مقدمته الـ«بلاك بيري».

هذه المعركة، وتقلص مساحات النفوذ والهيمنة للدولة، ليست أمرا خاصا بدول العالم الثالث، بل حتى في أميركا، زعيمة العالم الحر، بعد أن كشر جنرالات البنتاغون الأميركي عن أنيابهم غضبا على موقع «ويكيليكس» الذي يملكه الصحافي الأسترالي جوليان اسانج الذي نشر أكثر من 90 ألفا من الوثائق السرية التي تتعلق بتقارير الجيش الأميركي والمخابرات من ميدان المعركة في أفغانستان، وكشفت هذه الوثائق عن أسماء قد يتعرض أصحابها للخطر المحقق.

وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس قال إن موقع «ويكيليكس» «مذنب» من الناحية الأخلاقية على الأقل لنشره وثائق أميركية سرية عن الحرب الأفغانية. وقال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الأدميرال مايك مولين إن البنتاغون تحاول حماية الأفغان المعرضين لخطر انتقام طالبان بعد نشر آلاف الوثائق السرية عن الحرب الأفغانية. وحسب «بي بي سي» البريطانية فإن متحدثا باسم طالبان قال إنهم سيستخدمون المواد المنشورة لمطاردة أولئك الذين تعاونوا مع من تعتبرهم طالبان غزاة أجانب.

الجدل دار حول قيمة هذه الوثائق، وحول حرية الصحافة في تناول المعلومات، وحول تشدد الحكومة الأميركية في المبالغة في «تشفير» كل شيء يجري في أفغانستان والعراق وغيرهما من البؤر الساخنة في العالم، بينما رأى آخرون أن الصحافة هنا، أو غالبها، للدقة، تمارس استهتارا وعدم إحساس بالمسؤولية تجاه حياة الآخرين، وتعريض الجنود والمدنيين للمهالك، وضرب جهود العاملين في ميدان المعركة من الخلف برصاص الإعلام المنفلت.

ومن الصعب حسم هذه المسألة وفق الدساتير التي تكفل حرية التعبير وتداول المعلومات بشكل كبير كما هو الحال في أميركا والدول الأوروبية الغربية، ولكن تحت حاجة الضرورات الأمنية الكبرى قد يتحصل قادة المؤسسة العسكرية على سند دستوري ما.

بعيدا عن فضيحة «ويكيليكس» وتقارير ومسودات أفغانستان، تبقى المشكلة الأكبر والأشمل حاليا هي في السباق المستمر بين الحكومات والأفراد في الحصول على المعلومات المخفية والروايات المطوية. سباق وصراع يشبه صراع «توم وجيري» بطلي المسلسل الكرتوني الشهير للأطفال.

دائما هناك عدم اقتناع بكفاية الرواية الرسمية حول أي حدث أو مشكلة تستحوذ على اهتمام الناس، بصرف النظر عن دوافع هذا الشعور بعدم الإشباع في المعلومات واستكمال الرواية الكاملة: هل هي دوافع نفسية وتجربة تاريخية متراكمة عبر القرون لدى كل المجتمعات البشرية، أو أن حالة اللاثقة هذه خاصة بشعوب معينة لا تعيش في ظل حكم دستوري ديمقراطي يكفل حرية التعبير وتداول السلطة السلمي، وبالتالي لجم عنفوان الحكومة في السيطرة على مصادر المعلومات؟ كلا الاحتمالين وارد.

خدمة الـ«بلاك بيري»، وهو جيل من الهواتف الذكية انتشر بسرعة مذهلة في العالم، جوهرها هو توفير مساحات تواصل شخصية بين المشتركين وتداول الصور والمعلومات والملفات المتنوعة، وإجراء أحاديث سريعة عبر «الماسينجر» وإنشاء «قروبات» ومطالعة الإيميل الشخصي والتفاعل معه بشكل فوري، من دون أن يمر هذا المحتوى بسلطات الاتصالات المحلية، كل هذه المزايا انهمرت كالسيل على سدود الحكومات العالمية، وكان التفاعل المذهل والسريع للمشتركين في العالم فوق قدرة السلطات المحلية في كل دولة على المتابعة و«التأطير».

بدأت «ثقافة» هذا النوع من الاتصالات تظهر بسرعة، وكون جيل الـ«بلاك بيري» والـ«فيس بوك» قوة ضغط خاصة، تسبق الفضائيات ومواقع الإنترنت، فضلا عن الصحف طبعا أو إعلام الحكومات، وبسبب السرعة في ترويج المعلومة أو الصورة بشكل فوري، ظهرت أخطاء بل خطايا كثيرة تضرر منها شخصيات عامة أو مؤسسات اعتبارية. لكن هذا ضرر متوقع في ظل هذه السرعة الهائلة التي تأتي على حساب الدقة والإتقان.

الآن بدأت بعض الحكومات عندنا في العالم العربي تكفهر في وجه هذا الـ«بلاك بيري»، وقد قررت الإمارات منع مزايا هذا الـ«بلاك بيري»، خصوصا الماسينجر، عن المستخدمين بسبب فشل التفاوض مع الشركة الكندية الأم. ويتردد مثل هذا الكلام في السعودية.

«أمة البلاك بيري» تضع يدها على قلبها من هذه الغضبات الحكومية.

الجامع في كل هذه المعارك، سواء معركة موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» الذي سرب وثائق وتقارير سرية عن الحرب الأميركية في أفغانستان، أو توجه بعض الحكومات لاستعادة الـ«بلاك بيري» إلى بيت الطاعة الرسمي، الجامع هو الصراع حول حرية المعلومة وحدود هذا الصراع.

لن تنتهي لعبة الكر والفر بين من يريد الوصول إلى المعلومة وحرية التحدث بها وعنها، وبين من يريد تحديد نوعية المعلومات المتداولة، وما يجري أحيانا هو خسران جولة في المعركة وليس الحرب كلها.

من الأفضل، ولنتحدث عنا نحن في العالم العربي، أن نسعى لتوسيع هامش حرية التعبير والتخفيف من هذه الحساسية المفرطة حول حرية المعلومات، فإخراجها للنور يزيل عنها كثيرا من أوهام الظلام والخيالات الجامحة.

إبقاء أمر طي الكتمان لا يعني أنك استطعت منع الآخرين من التفكير فيه، ولكنه يعني أنك وجهت طريقة تفكيرهم بطريقة خاطئة، وربما ضارة.

لنأخذ مثلا محددا، ينتمي إلى الماضي القريب قبل عصر الإنترنت والـ«بلاك بيري»، فهذه الأيام مرت ذكرى حركة يوليو (تموز) وإنهاء الحكم الملكي في مصر، وأيضا ذكر مرور عشرين عاما على غزو صدام حسين للكويت.

كم هي الأوهام التي قيلت حول هذين الحدثين؟ وكم هي الوثائق التي لم يكشف عنها أصحابها حول هذه المحطات التاريخية الكبرى في حياتنا؟ وفي المقابل كم هي الأكاذيب والتهويمات التي قيلت عن هذه الأحداث الكبيرة؟

لماذا لا تفصح الشخصيات الأساسية التي أسهمت في صنع هذه الأحداث، وغيرها، في كتابة روايتها الخاصة عنها؟

لماذا نحن في العالم العربي، بالذات في دول الخليج، فقراء في فن المذكرات السياسية؟ ولماذا لا يكتب أبطال الأحداث الكبرى في تاريخنا مشاهداتهم ورواياتهم للتاريخ السياسي لهذه البلدان؟

أعرف أنه لا يجوز إصدار حكم موحد على الجميع، ففي مصر ولبنان والمغرب واليمن مثلا، يوجد كثير من المذكرات الشخصية المهمة والقيمة، ولكن قارن بما يجري في أميركا، حيث يكتب رئيس المخابرات المركزية الأميركية سيرته السياسية فور خروجه من المنصب!

وأعرف أيضا طبيعة الحساسيات الأمنية والسياسية والاجتماعية، ولست أدعو إلى الاستهانة بها، ولكن أدعو إلى عدم المبالغة فيها إلى درجة الكف نهائيا عن توفير «مكتبة» حقيقية عن التاريخ السياسي المحلي لنا.

يجب أن نوسع مجرى الوادي حتى يتسع للمزيد من تدفق المياه الجامحة بدل أن نضع المزيد من السدود أمامه!

الفضول والبحث عن المخفي طبيعة إنسانية منذ طفولة المرء، فمن الأحسن التعامل مع هذه الطبيعة، لا بل الاستفادة منها، وخصوصا أن وسائل الحصول على المعلومات وإنشاء مجتمعات اتصال خاصة أصبحت أمرا واقعا، والـ«بلاك بيري» أو مواقع الإنترنت مجرد عينة لما يمكن أن يكون.

[email protected]