التاريخ والاستراتيجية في أفغانستان

TT

هناك بعض المقالات أحيانا تحتاج قدرا من التعريف بالمفاهيم الأساسية؛ وهنا فإن التاريخ هو عملية تطورية تتداخل فيها مئات، بل آلاف، وربما حتى ملايين العناصر الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية، التي يتفاعل بعضها مع بعض لكي تنتج بعد ذلك واقعا مختلفا عما كان. وقد اختلف المؤرخون وعلماء الاجتماع والمفكرون والفلاسفة حول أهمية هذه العناصر وأكثرها فاعلية في تحريك المجتمعات من نقطة إلى أخرى؛ ولكنهم جميعا اتفقوا على أن لا شيء يبقى على حاله، وأن التغيير والانتقال من نقطة إلى أخرى هو من سنن الكون حتى عندما توصف مجتمعات بالجمود والتخلف. هي عملية طويلة المدى بالضرورة، قد يسرعها تطور تكنولوجي، أو ثورة عارمة تكون أشبه بعملية تسخين عناصر المادة حتى تتفاعل بسرعة أكبر وتتحول إلى وضع جديد. الاستراتيجية على الجانب الآخر هي عملية إنسانية محضة تتعلق بوسائط الانتقال ما بين الموارد والأهداف في مسرح أو ساحة بعينها، وبدايتها تعريف وتحديد المصالح المراد وقايتها أو حمايتها ووضعها في صورة نقاط بعينها يراد الوصول إليها في فترة زمنية محددة، ومن ثم يمكن الحديث عن الاستراتيجية العسكرية أو الأخرى الاقتصادية وهكذا. لذا فإن التاريخ يقيّم حسب المرحلة أو الزمن الذي يصل إليه من تقدم أو تراجع، أما الاستراتيجية فإن تقييمها عنوانه النجاح أو الفشل.

هذه المقدمة كانت ضرورية لتقييم الوثائق التي تم الكشف عنها مؤخرا فيما يخص الحملة العسكرية الأميركية والغربية في أفغانستان. وبغض النظر عما إذا كان نشر هذه الوثائق واجبا أم لا، وهل هو من قبيل ممارسة حرية الصحافة أو أنه نوع من التفريط في الأمن القومي، فإن المسألة كلها تكشف حالة من الفشل الناجم عن الجهل بالفارق بين الاستراتيجية والتاريخ. لقد ذهبت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أفغانستان لهدف محدد وهو إلحاق الهزيمة بجماعة الإرهابيين الذين خططوا ودربوا لعمليات إرهابية جرت في مناطق مختلفة من العالم ولكن أهمها وأكثرها قسوة تلك العمليات التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وواشنطن. مثل ذلك يمثل عملية استراتيجية لها هدف محدد يتطلب تعبئة الموارد البشرية والمادية من أجل تحقيقه ودون الزيغ عنه إلى أهداف أخرى، وبخاصة إذا كانت هذه الأهداف لا يمكن حصرها ووضعها بدقة ووضوح.

وكان ذلك تحديدا هو ما وضعته الولايات المتحدة وحلفاؤها للحرب في أفغانستان حينما خلطت الاستراتيجي بالتاريخ، وبينما كانت تقوم بعملياتها العسكرية التي تستدعي بناء أكبر قدر من التحالفات القادرة على هزيمة الخصم، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يوسعون من دوائر الخصوم من خلال محاولة دفع التاريخ إلى الأمام من خلال الديمقراطية و«بناء الأمة» الأفغانية. وحتى قبل أن تنتج المهمة تقدما من أي نوع سواء تجاه الهدف الاستراتيجي بالقضاء على الإرهابيين كانت قد ذهبت إلى العراق لكي تقضي على إرهاب لم يكن موجودا فجاء إليها، ومعه قررت بناء العراق وتفكيك الأمة العراقية حتى انتهى الأمر إلى دولة ديمقراطية تفشل في تشكيل حكومة لمدة أربعة شهور. ولا يخفى على أحد أن بناء الأمم، والديمقراطية، والتنمية، والتقدم، هي مفاهيم تاريخية يدخل فيها العديد من العناصر التي يستحيل على قوات أجنبية القيام بها مهما توفر لها من موارد وقدرات.

«الوثائق الأفغانية» - إذا جاز التعبير - التي نشرتها شبكة «ويكيليكس» ونقلت عنها كبريات الصحف العالمية والشبكات التلفزيونية تكشف ذلك بوضوح حيث ترصد هذه الوثائق انتهاكات عديدة من قبل القوات الأميركية منها قيام قوات من «المارينز» بإطلاق نار بصورة عشوائية عقب تعرضها لهجوم بالقرب من مدينة جلال آباد في عام 2007 الأمر الذي أسفر عن مصرع 19 مدنيا وإصابة نحو 50 آخرين، ومنها قتل 7 ضباط وجرح 4 من الشرطة الأفغانية في يونيو (حزيران) 2007 قبل أن يعتبر الحادث ناتجا عن سوء فهم. مثل هذا الحادث قد يكون عاديا أثناء الحروب التي تمارس فيها عمليات الدفاع والهجوم من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي، ولكن لأن الولايات المتحدة تريد اللعب بالتاريخ في الوقت نفسه عن طريق الديمقراطية والتنمية والقومية فإنه يستحيل ضبط ذلك مع ممارسة القتل في الوقت نفسه.

وتشير الوثائق أيضا إلى أن الاستخبارات الباكستانية تدعم حركة طالبان وحددت الرئيس السابق للاستخبارات الجنرال حميد غل بالاسم، حيث قالت إنه شارك في اجتماع مع متمردين عقد في يناير (كانون الثاني) 2009. كما قالت إن إيران تقوم بدعم عناصر طالبان بالسلاح في مدينة بيرجند المحاذية للحدود الإيرانية - الأفغانية، لمحاربة القوات الأميركية. هنا أيضا يتبدى التناقض بين الاستراتيجية والتاريخ، فلو أن الهدف الاستراتيجي - أي القضاء على الإرهابيين - كان هو الموضوع لكان ممكنا بناء تحالف أو حتى تآلف مؤقت مع كل من باكستان وإيران للتعامل مع الموضوع. ولكن لأن القضية اختلط بها التاريخ فإنه لم يعد مفهوما في كثير من بلدان العالم الإسلامي عما إذا كانت أميركا وحلفاؤها الغربيون يريدون القضاء على الإرهاب أم القضاء على عادات وتقاليد امتدت لآلاف السنين، والأخطر أن أعداء التحالف الغربي نجحوا في جعل القضية حربا على الإسلام، وهو أمر عندما تختلط الاستراتيجية بالتاريخ لا يمكن الهرب من وجوده ضمن أجندة المشاركين الذين يعتقدون بعد فترة قصيرة أنه ما دام لا يوجد حماس لبناء الأمة، أو قيام الديمقراطية، فلا بد أن هناك خطأ من نوع أو آخر في العقيدة الأساسية لهذه الأمم.

المدهش في الموضوع أن أحدا في الغرب لم يعد أبدا إلى تاريخ الغرب نفسه عندما مر بالفترات القبائلية والعشائرية والمذهبية ليعرف أنه لا يصح بناء الأمة دون قيام السوق الواحدة، ولا يمكن قيام الديمقراطية دون ظهور طبقة صناعية وسطى، مع بلورة مؤسسات معقدة تقوم على تعريف ومراعاة مصالح مشتركة. مثل ذلك لا يقيمه الغزو الأجنبي، الذي ينسى بعد فترة مهمته الأصلية، بل إنه يعمل في مناخ معاد تماما يجعل عملية التخلص من الإرهابيين مستحيلة. الخلط بين التاريخ والاستراتيجية يعطي الإرهابيين أكبر هدية لأنه ينقل المعركة من التهديد الذي يمثلونه في المجتمعات التي يعيشون فيها وهم يستخدمون أساليب للحياة تنتمي إلى العصور الوسطى بما فيها من قهر للنساء والرجال أيضا، إلى تهديد معتقدات وطرق في الحياة تتماشى مع درجة التقدم الاجتماعي والثقافي السائدة. وفى الاستراتيجية يكون توازن القوى في صالح الغرب، أما في التاريخ فإن توازن القوى ينقلب لصالح الإرهابيين. الوثائق الأفغانية تشهد بذلك، ولم تكن هناك حاجة لوثائق عراقية لكي تؤكدها.