حرص الكرامة لا المال

TT

الحكايات التي يرويها الزملاء عن «حرص» أو إذا شئت، بخل، كبار الأدباء، كثيرة وحقيقية. مرة، نرى ميخائيل نعيمة يطلب أجره من موفد إذاعة الكويت قبل إجراء المقابلة. ومرة نرى طه حسين يعد المبلغ الذي دفعه له التلفزيون المصري قبل بدء المقابلة معه. ومرة نرى توفيق الحكيم يعد المبلغ مرتين.

وفي باب الطرائف تبدو هذه الحكايات طريفة حقا. عملاق مثل طه حسين يعد مبلغا زهيدا تكرم به تلفزيون أكبر بلد عربي. أو أديب مثل ميخائيل نعيمة يعد أجرا تبرعت به إذاعة أغنى بلد عربي في ذلك الوقت. أما في باب الحقائق والمآسي فإننا نرى ثلاثة من أهم وأشهر أدباء العرب في القرن العشرين، لا يثقون بأن إذاعات العرب سوف تسدد أجورهم. ونراهم يقبلون من الإذاعات والصحف ودور النشر أجرا معيبا، للعرب لا للأدب. ورغم طرافة الطرائف فإن موقع طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة هو موقع آدابهم وعطائهم لا موقع حاجاتهم وخوفهم من الغد في بلاد مات فيها الشعراء والأدباء والفنانون على أبواب المستشفيات أو الأطباء أو الجوع.

والبخل أبغض الصفات وأغلظها وأكرهها في العيوب. لأن أقسى منه حاجة العمالقة إلى العاديين. حاجة طه حسين وتوفيق الحكيم إلى ضابط من ضباط الثورة. وحاجة أم كلثوم إلى أمر من وزير. وحاجة ميخائيل نعيمة إلى أن يضع صاحب مكتبة مؤلفاته في «مكان ظاهر».

أتصور أن مصر المعاصرة سوف تكون أقل ألقا من دون أم كلثوم وطه حسين والحكيم، على ما نسب إليهم من بخل. ولبنان سوف يسقط حجر من مكانته من دون ميخائيل نعيمة. وكل فترة أقرأ عن أديب كبير غير قادر على دخول المستشفى، لأنه لم يعد أجره قبل العمل. أو عن فنان أو فنانة دق المرض أو العوز بابهما بعدما نسي الناس ما قدما وما أعطيا. وكل ما أستطيع فعله هو الاتصال بالرئيس ميشال سليمان لكي ألفت نظره إلى أن ثمة وضعا مأساويا لا يليق بالبلد. وإني ممتن لأخلاقه وطيبته ووداعته في الاهتمام بذوي الكرامات في بلد لم تعد الكرامة فيه ذات شأن. كلما قرأت عن شاعر أو أديب أو فنان، في حالة من هذه الحالات، أتمنى لو أنه اتخذ العبرة من عمدة الأدب والفكر وسيدة الفن الخالدة. لقد عرفوا بلدانهم وعالمهم، فكانوا يعدون أجورهم. الشيء الذي لم يذكره الزملاء، هو أنه في بلدان الآخرين، لا يعد الأديب أجره، لأن الناس لا تتعاطى بالنقد. تصل الأجور إلى أصحابها في حساباتهم المصرفية. وتدفع بأرقام تليق بمستوى الأدب وبتقدير للوقت وللجهد. ومنذ أيام طه حسين، لم يتغير الكثير. كتاب واحد عن الطبخ (صحة ومبروك) يزيد دخله على مجموع ما عد ولم يعد نعيمة والحكيم والعميد الكبير.