أسعد دولة

TT

أكثر الأديان تغلغلا بين الغربيين في هذه الأيام هما الإسلام والبوذية، ولكل أسبابه. الدين الإسلامي هو الدين الرسمي لعدة دول، ولكن البوذية هي الدين الرسمي لدولة واحدة هي مملكة بوتان، الدولة الصغيرة الواقعة على سفوح جبال الهملايا بين الهند والصين. ما هذه الميزة هي الميزة الوحيدة التي تتفرد بها هذه المملكة، ولكنها تتفرد أيضا بكونها الدولة الوحيدة التي جعلت نيل السعادة دستور البلاد. تعتمد كل الدول الأخرى في قياس تقدمها ونموها على ما يعرف بالناتج المحلي الإجمالي (GDP) الذي يعكس التقدم الاقتصادي المالي للبلاد. تتبع مملكة بوتان معيارا آخر هو الناتج المحلي للسعادة (GNH) Gross National Happiness أو بعبارة أخرى، ما حققته البلاد من السعادة لمواطنيها. استعملت قواعد ومقاييس لقياس تحقق السعادة الوطنية بمزيج من المعتقدات البوذية والمبادئ البيئية والاجتماعية والروحية التي أخذ يروج لها الكثير من علماء الاقتصاد في الغرب. وساعد مملكة بوتان بعض هؤلاء الخبراء في وضع أسس نشر السعادة وقياسها في المجتمع. الثروة ليست كل شيء. القناعة كنز لا يفنى. السلام والمحبة خير من النزاع والكراهية. الهدوء واللاعنف أفضل من التعصب والعنف.

تعتمد الأمم المتحدة والمؤسسات الاقتصادية العالمية الأخرى على الناتج المحلي الإجمالي في قياس إنجاز الدول، كما ذكرت، بيد أن مؤسسات أخرى أخذت تقيس الإنجاز بمقياس الناتج المحلي للسعادة. وقد نالت بوتان بموجب هذا المقياس مكانة أسعد دولة في آسيا، وثامن أسعد دولة في العالم. فتشت عن العراق فلم أجد له ذكرا. سألت صديقي الدكتور غانم عن ذلك، فقال تجده في قائمة أخرى. قائمة أتعس الدول في العالم.

من أسس سعادة هذه المملكة، العناية بالبيئة وتشجيع الخضرة. التدخين ممنوع. ولم يسمحوا بالتلفزيون حتى عام 1999، مع منع البرامج العنيفة، كالمصارعة والملاكمة. نصبوا إشارات مرور ضوئية في العاصمة، ولكنهم لاحظوا أنها أخذت تثير أعصاب السائقين، فأزاحوها وجاءوا بشرطي يتولى تنظيم المرور. الإنسان أحسن من الآلة. الإعلانات التجارية ممنوعة، لأنها تشجع الجمهور على الروح الاستهلاكية. الكوكا كولا والبيبسي كولا موجودة في الأسواق، ولكن إعلاناتها ممنوعة. وكذا منعوا استعمال الأكياس البلاستيكية، وما على شاكلتها من مسببات الزبالة.

تبنى الملك جغم سنغي وانكجوك، أسلوب المملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان في التطوير السياسي المرحلي للبلاد، وجاءت المرحلة الأخيرة في الانتخابات العامة التي جرت سنة 2008، حين فاز فيها - بالطبع - حزب الرخاء والسعادة. يعزى جل هذه الإصلاحات لمبادرات الملك، واحترام الجمهور لمبادراته. انطلاقا من مجلس شورى بسيط، توصلوا إلى تأسيس جمعية وطنية عامة تتمتع بحقها في إسقاط الحكومة بتصويت ثلثي النواب.

ربما سيخطر لبعض قراء هذه الزاوية، أنه إذا كانت بوتان أسعد دولة، فهيا بنا نرحل إليها، طالما كانت السعادة هدف كل إنسان. ولكن مهلا. فلي رجاء هنا. أبعدوا عنها، ولا تخربوا سعادتها، كما خربنا سعادتنا في عالمنا العربي.