من سلام الشجعان إلى «سلام» فياض!

TT

منذ الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) 1988، ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منح تأشيرة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية (وقتذاك) الراحل ياسر عرفات للسفر إلى نيويورك، في ذلك اليوم أطلق عرفات مبادرته المعروفة بـ«سلام الشجعان»، مبادرة تقضي بتسوية المشكلة، كان ذلك في عهد رونالد ريغان الذي أقر فكرة إجراء حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من مارس (آذار) 1989.

يومها كان عمري سبعة وعشرين عاما وكانت قد مرت أربع سنوات على قدومي إلى الولايات المتحدة. وكنت في نقاشاتي مع زملائي من الطلاب الأميركيين حول فلسطين أعاني من فقر الحجة وضعف البرهان، حيث كنت أردد ما قالوه لنا في المدارس المصرية من حجج «خايبة» وتافهة عن الحق العربي في فلسطين، بينما كانوا هم يتحدثون بلغة الحفريات والآركيولوجيا لتثبيت الحق اليهودي في فلسطين! بالطبع هناك فارق كبير بين العلم الذي يتحدثون به، وبين الكلام التافه الذي لم أكن أعرف سواه لمحاججتهم، وبعد سنين من التدريب كتبت أول ورقة بحث بطريقة الآركيولوجيا وتاريخ اللغات والسيموطيقا، وكان عنوان البحث «Palestine: a History of a Name (فلسطين: أصل الكلمة وتاريخها)». في ذلك البحث أرخت لأول مرة استخدمت فيها الكلمة، ومتى ظهرت إلى الوجود، وهل كان هناك شعب في التاريخ يطلق عليه اسم الشعب الفلسطيني. كان البحث يحاول أن يدحض مقولات مثقفي اليهود آنذاك، التي كانت تقول إنه ليس هناك شعب فلسطيني وإنما هناك شعب من العرب كان يسكن إسرائيل التاريخية. كان بحثا لنيل درجة الماجستير، ولم يكن شيئا عظيما ولكنه كان محاولة جادة للخروج من عالم التعليم السطحي ومنهجية البحث الضعيفة التي تعلمتها في مصر، والتي ما زال أبناؤنا وبناتنا يتعلمونها هناك إلى الآن.

القضية هي أن سلام الشجعان آنذاك أيضا، كان كمقولاتنا الفارغة، حيث لم يؤصل لها فكريا، ولم تكن معه حملة إعلامية مصاحبة، ولا أموال ورجال تحميه، كان مجرد مسرحية كبيرة مفرغة من كل شيء إلا الأبطال الذين ينشدون الظهور على المسرح.

أكثر من عشرين عاما مرت، وانتقل الفلسطينيون والعرب من سلام الشجعان إلى المحادثات غير المباشرة والمباشرة، «ونتنياهو ح يعطينا نصف الضفة ولا ربع الضفة، ولا 92% من الضفة»، هذا الهزل هو السبب في العنوان الذي اخترته لهذا المقال (من سلام الشجعان إلى «سلام» فياض!)، إشارة إلى رئيس الوزراء الفلسطيني الحالي الذي يعول عليه العدو والصديق، على أنه الرجل القادر على تحقيق السلام عن طريق «التنمية المستدامة»، بلغة «عيال» البنك والصندوق الدوليين الذين تربوا في الغرف المكيفة ولم يعرفوا الحياة الحقيقية إلا في معسكرات الكشافة أو مثيلاتها.

ثم بدأ بعد ذلك الفيلم الهندي أو المسلسل المكسيكي الممل، خرجنا من «سلام الشجعان» إلى مؤتمر مدريد عام 1991، ومر عامان على مؤتمر مدريد فخرجت علينا جماعة سلام الشجعان بما عرف باتفاق أوسلو الأول، اتفاق لم نعرف أصله ولا فصله ولا أوسلو. وكان ذلك أول اتفاق فلسطيني - إسرائيلي وقعه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في 13 سبتمبر (أيلول) 1993 على الملأ وفي العلن، في العاصمة الأميركية واشنطن. في تلك الفترة كنت قد أصبحت أستاذا في الجامعة بعد أن كنت طالبا للدكتوراه، كنت أنمو فكريا وكانت القضية تتضاءل سياسيا، وكأن هناك تناسبا عكسيا بين وضعي الشخصي والقضية حتى إنني في يوم تمنيت لو ساء حالي كي تتحسن أحوال القضية!

انتهينا من أوسلو ودخلنا في اتفاق غزة - أريحا في السنة التالية، أو ما أسميه باتفاقية المقاولات الخاصة بمقاولي الأنفار، حيث كان كل هدف الاتفاق تنظيم العمالة بين الطرفين بما يسمح للعمال الفلسطينيين والعملاء أيضا بسهولة الحركة، توقفت حركة العمال واستمرت حركة العملاء. كان ذلك في مايو (أيار) 1994. ثم ذهبنا إلى اتفاق طابا ومذكرة موراتينوس الذي ترقى هو أيضا (أي موراتينوس) من مركز سفير إلى وزير خارجية إسبانيا اليوم، ثم دخلنا في محادثات واي ريفرز الأولى عام 1998، ثم واي ريفرز الثانية أو اتفاق شرم الشيخ عام 1999. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن أدخلنا الإسرائيليون في أفلام جانبية للتوصل إلى اتفاق بين «فتح» و«حماس»، أو وثيقة تفاهم مصرية.. إلخ.

أكثر من عشرين عاما مرت ونحن ندور في ألاعيب إسرائيل والمجتمع الدولي، من سلام الشجعان إلى المفاوضات غير المباشرة، ثم نتحاور الآن عن المفاوضات المباشرة، أصبح تاريخنا تكرارا لحلقة مفرغة من سلام الشجعان إلى «سلام» فياض.. والسلام!