السعوديات على جناح الابتعاث

TT

تتحلق السعوديات اليوم حول حديث واحد؛ الابتعاث.

منذ أن كان سفر الفتاة السعودية للدراسة في الخارج حالة نادرة مرتبطة غالبا بعمل والدها أو زوجها في سفارات السعودية حول العالم، وحتى اليوم حيث يزداد طول صف الواقفات أمام برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، مرت الحالة التعليمية للسعوديات بمراحل تستحق كثيرا من التأمل، يهمنا فيها أن وضع المرأة كان متأثرا بكل التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية وتوابعها، سلبا أو إيجابا، وهذا مصير المرأة في كل بلدان العالم، لذلك اكتسبت عن غير نية؛ وضعها كأهم معيار لتقدم أو تأخر أي مجتمع.

قبل عشرين عاما كانت فكرة أن يكون للفتاة السعودية بطاقة هوية حلما من أحلام اليقظة، بل كان مجرد طرح الفكرة بمثابة صاعقة هزت أركان المجتمع السعودي المحافظ في كل ما يخص نصفه الآخر، أما اليوم فلا تستطيع المرأة أن تقضي حوائجها شبه اليومية في المستشفيات أو البنوك إلا ببطاقة الهوية. أيضا، قبل عشرين عاما عندما بدأت الوظائف النسائية في قطاع التعليم تنحسر في المدن الكبرى، تقاطرت خريجات الجامعات للعمل في المناطق النائية والهجر، وأصبح بنات الأسر المحافظة يتنافسن ويتزاحمن على العيش لسنوات بعيدا عن بيوتهن وأسرهن في مناطق نائية، ربما لم يسمعن بها من قبل، لضمان الوظيفة.

لم يتغير الوضع كثيرا، ولكنه تحور إلى شكل آخر، الفتاة السعودية تفكر أسرع من حركية المجتمع حولها، فحينما شعرت أن سوق العمل لم تعد تتسع لشهادتها الجامعية المحلية في وجود شهادة من جامعة أجنبية، عزمت أمرها، وحزمت حقائبها، وانضمت إلى الدراسة في جامعات حول العالم.

عشرون ألف سعودية من كافة مناطق المملكة توجهن للدراسة في أميركا وكندا وأوربا واستراليا، ففي الولايات المتحدة وحدها أكثر من 6000 مبتعثة.

العزيمة التي تملكها المرأة السعودية مثيرة للإعجاب والتعجب، إنها تتحين الفرص وتعرف متى تنقض عليها، وشخصية بهذه القوة لا يمكن إلا أن تتولى الدولة تيسير أمرها، وإزاحة العوائق قدر المستطاع من طريقها فيما يخص المعاملات الإدارية لطلب الابتعاث، وتوجيه القطاعات الأخرى بتسهيل إجراء إلحاق المرافق لها ببعثتها، ومتابعة شؤونها الدقيقة في الخارج من خلال الملحقيات الثقافية، حتى لو اقتضى الأمر وضع نظام رعاية خاص للبنات المبتعثات، فالموضوع يستحق.

لا أريد أن أبالغ، ولكني على قناعة بأن القيمة الكبيرة لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، ليس أنه أتاح فرصة الدراسة في الخارج، بل كونه استطاع أن يغير من نظرة المجتمع نحو المرأة ويزيد من تقديرها لذاتها دون أن يمس خصوصية المجتمع، بمعنى آخر، أنه أنشأ عرفا اجتماعيا جديدا دون تغيير أي نظام داخلي.

هذه المعادلة الصعبة التي بدأت منذ نشأة تعليم البنات في السعودية اعتمدت على منهجية ثابتة؛ وهي طرح الخيار على الطاولة دون فرضه ولا حتى تسويقه، بل يوضع كوجبة لذيذة ويترك باقي الأمر لشهية الناس.

لقد بدأت عودة الفوج الأول من المبتعثات، وهناك كما أرى توجه لتوظيف كل العائدات، مما شجع زميلاتهن على خوض التجربة، والإقدام على حجز مقعد على نفس الرحلة. والحقيقة أن أهمية الموضوع للمبتعثات ليست فقط الحصول على الوظيفة، بل الرغبة في الانفتاح على المجتمعات المتقدمة علميا، والاحتكاك بثقافات مختلفة توسّع المدارك وتكسب القدرة على التأثير والتأثر، وتعود النفس على التعاطي مع الآخرين، لأن الانغلاق آفة، مهما عظم شأن الشخصية فانغلاقها على نفسها يقلص من حجمها بمرور الوقت. وحتى الدولة لا تريد لأبنائها وبناتها الانعزال والتوحد والتقوقع على ذواتهم، لأن ذلك يجعلهم أسرى للفكر الواحد الذي قد يصل حماسهم له وتعصبهم من أجله إلى التطرف بكل أشكاله.

ابتعاث السعوديات من خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين أو من خلال الجامعات هو طريق صحيح، ويستحق كل ريال أنفق عليه، سواء كان الابتعاث طويل المدى يتجاوز الأربع سنوات، أو قصير المدى لا يتجاوز السنتين، لتطوير مهارة لغة أو تعلم تقنية، وأنا هنا أؤكد على النوع الثاني لأنه يتماشى مع الظروف الاجتماعية التي قد تعيق الابتعاث الطويل للفتاة، ولكنه يمنح فرصة الابتعاث بكل امتيازاته العلمية وامتيازاته الشخصية من إثارة للطموح وتوسيع للآفاق وتحسين للتقييم الذاتي.

إن الطلب المتزايد من السعوديات على الدراسة في الخارج يشير إلى أن هناك إدراكا لأهمية الانفتاح على العالم على المستوى الشخصي والوطني، وفهما لمتطلبات المرحلة التي تستدعي أن يتم تشغيل المجتمع بكامل طاقته من الجنسين بأفضل المؤهلات الممكنة.

كما يمكن أن نستخلص من تجاربنا السابقة بأنه لا يجب أن ندفع ثمنا مقابل كل خطوة لصالح المرأة السعودية؛ عشرين عاما من عمر التنمية.

* أكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود

[email protected]