مناورة الصواريخ الإيرانية

TT

لم يعلن أي طرف مسؤوليته، حتى ساعة كتابة هذه السطور، عن انفجار الأربعاء (100 متر من موكب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد) في مدينة همدان. الرئيس الإيراني، الذي لم يصب بأذى، بدا متوترا وعصبيا بقية اليوم.

الإيرانيون لمحوا لدبلوماسيين غربيين باشتباههم في تيارات سياسية انفصالية «من عرقيات عربية» في غرب إيران. وكعادة الدبلوماسي الإيراني الذي حادثته، اتهم الـ«سي آي إيه» الأميركية بأنها تدعم هذه الجماعات الانفصالية «في عمليات التخريب».

وإذا كان الرئيس الإيراني هو المستهدف، فإنها تكون المحاولة الرابعة في حياة السياسي المثير للجدل، الذي يرى شعبيته تضمحل وتتضاءل منذ فوزه المشتبه فيه في انتخابات رئاسية أثارت معارضة واحتجاجات قوية بعد اتهامات واسعة بتزوير النظام الثيوقراطي لها في العام الماضي.

وكان أحمدي نجاد تعرض لمحاولتي اغتيال عام 2008، وقبلها بثلاثة أعوام، كان تعرض لأخطر محاولة على حياته عندما أطلق انفصاليون النار عليه وقتلوا سائقه وحرسه قرب الحدود مع باكستان.

وأحمدي نجاد ردد عدة مرات، آخرها مطلع الأسبوع، أن إسرائيل تحاول اغتياله. ويبدو أن إقحام أطراف كالـ«سي آي إيه» وإسرائيل في أحاديث الزعيم الإيراني، وفي لقاءات دبلوماسييه مع الصحافيين، محاولين تغطية خلافات حادة وصراعات عميقة على السلطة داخل إيران.

فالمؤسسة السيادينية الحاكمة في إيران، التي «مسحت»، من الخريطة السياسية، كل المؤسسات الديمقراطية أو ما بقي منها، بذلت جهودا كبيرة للتقليل من شأن انفجار همدان حتى لا يثير انتباه الصحافة العالمية إلى عدم الاستقرار وعدم تأكد النظام من تثبيت دعائمه في الأرض السياسية؛ حسب تقدير الدبلوماسي الإيراني السابق مهراد خونصاري. ويرى خونصاري - حسبما يكرر لكل صحافي يصادفه - في الهجوم الأخير إشارة على تطور حالة السخط العام على حكومة الملالي من مظاهرات شعبية في العام الماضي، وكتابات على الجدران وحملات على الإنترنت بعد قمع المظاهرات هذا العام، إلى عنف مباشر يستهدف رئيس الجمهورية نفسه.

المثير للانتباه هو توقيت إعلان حكومة أحمدي نجاد، وراعيها الآيديولوجي آية الله خامنئي، عن حصولها على الصواريخ «300 - S» البعيدة المدى الروسية الصنع، التي صممت لاعتراض الطائرات التي تطير بسرعات تفوق سرعة الصوت وأيضا الصواريخ الباليستية. الصواريخ الروسية، يقول خبراء المعهد الملكي للخدمات الموحدة العسكرية (RUSI)، من شأنها «تغيير لعبة التوازن العسكري» في المنطقة.

التوازن العسكري التقليدي يقوم على تبادل مساو للردع التدميري. ولا يقوم على امتلاك أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية بأعداد كبيرة فقط، بل على قدرة طرف على إيصاله إلى الأعماق والمراكز الاستراتيجية للطرف الآخر؛ ومن ثم فإن قدرة طرف على إسقاط صواريخ وطائرات خصمه قبل أن تصل إلى أهدافها تعادل التفوق العددي في امتلاك الرؤوس المهلكة. وهذا التفكير وراء اعتبار موسكو مثلا نصب حلف الناتو لمراكز رادار الإنذار المبكر في بولندا بمثابة تغيير في ميزان الردع النووي لغير صالحها، حيث يلغي التفوق العددي لصواريخ الروس لإمكانية تحييدها بالكشف عن لحظة إطلاقها (ولهذا السبب أيضا فإن غياب عمق جغرافي لإسرائيل يجعل سلاحها النووي هو خيار شمشون الانتحاري: «علي وعلى أعدائي»، وليس سلاح تهديد تكتيكيا له قيمة مؤثرة فعلية في أي من الحروب الثماني التي خاضتها إسرائيل في 58 عاما).

وإيران تطلب هذه الصواريخ من روسيا حسب اتفاقية، يقول الإيرانيون إنهم دفعوا ثمنها منذ بضعة سنوات، لكن موسكو امتنعت عن تسليمها كورقة ضغط على الجمهورية الإسلامية لقبول المقترحات الأوروبية والدولية بشأن عرض روسيا توفير اليورانيوم المخصب كوقود للمفاعلات النووية الإيرانية بدلا من تصنيعه في إيران مما يعطيها قدرة وكميات لتصنيع الأسلحة النووية.

وحسب المصادر البريطانية والأوروبية، فإن جانبا من احتجاز روسيا لهذه الصواريخ هو إقناع إيران بالعدول عن تخصيب يورانيوم إلى درجة الصلاحية للقنبلة النووية، خاصة بعد صدور قرارات من الأمم المتحدة بفرض عقوبات دولية عليها بسبب مماطلتها في قبول كل العروض المغرية، مما يشير إلى نوايا أخرى بجانب الأغراض السلمية التي تدعى إيران أنها وراء خطة التوسع في بناء المفاعلات.

لكن أحد أهم أسباب تأجيل روسيا (إلى موعد لم تحدده حتى الآن) تسليم الصواريخ إلى إيران هو تفاهم دولي، تلعب موسكو دورا كبيرا فيه، بعد زيادة التوتر في منطقة الشرق الأوسط، الملتهبة أصلا بقضايا أثبت التاريخ عدم خضوعها لمنطق التسويات السلمية. فإسرائيل لمحت أكثر من مرة في السابق إلى أن أسراب القاذفات الإسرائيلية ستتجه صوب الأجواء الإيرانية حال حصول إيران على هذه الصواريخ.

فلماذ اختارت إيران هذه التوقيت لإعلان حصولها على الصاروخ «300 - S» (رغم نفي موسكو تسليمه، وقول إيران إنها حصلت عليه من مصادر أخرى، ربما من روسيا البيضاء أو إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي الأسبق)؟

أليس في ذلك مجازفة باستفزاز إسرائيل للقيام بغارات جوية، إما على المنشآت النووية الإيرانية، أو على مخازن الصواريخ، أو محطات رادار التشغيل، أو على الأهداف مجتمعة؟

الإعلان تزامن، بصدفة مثيرة للريبة، مع إطلاق مجهولين تسللوا، على الأغلب إلى جنوب سيناء، صواريخ على إيلات الإسرائيلية، وعلى مدينة العقبة الأردنية.

كما تزامن مع تهديدات زعيم حزب الله، حسن نصر الله، بتكفير كل من يقبل ما سيصدر عن المحكمة الدولية التي تحقق في اغتيال الزعيم اللبناني الراحل رفيق الحريري، بخلاف ما أفتى به وهو اتهام إسرائيل بعملية الاغتيال؛ في التحليل الموفق لزميلنا طارق الحميد، الخميس بعنوان «نصر الله فوق الشجرة»، بعد قفز الزعيم الناري الخطابة على حادثة صدام الجيش اللبناني مع الإسرائيليين على الحدود يوم الثلاثاء وسقوط قتلى من الجانبين، متوعدا إسرائيل، بينما لم يشترك مقاتلو حزبه المسمون بالمقاومة (رغم غياب احتلال توجب مقاومته في لبنان!) في مساعدة الجنود اللبنانيين بأسلحتهم الخفيفة في مواجهة مدفعية ثقيلة وطائرات هليكوبتر إسرائيلية.

ويبدو أن مجازفة النظام الثيوقراطي الشمولي، باستفزاز إسرائيل بالإعلان عن الصواريخ الجديدة، هو خطوة محسوبة، أولا لصرف الانتباه عن معارضة (وربما مقاومة) داخلية، ولتوحيد الشعب حوله أمام تهديد خارجي.

كما أنها جزء من المناورات السياسية للهيمنة الإقليمية. فأسهم الجيش اللبناني (بعد معركة الشجرة) ارتفعت في الشارع السياسي عن أسهم حزب الله أيام بعد دبلوماسية ناجحة لخادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، في لبنان التي تحرك الأيدي الإيرانية خيوط دمى خطيرة فيها.

أما عن تزامن خبر الصواريخ مع إعلان الرئيس أوباما خروج القوات الأميركية من العراق هذه الشهر، ونوايا إيران المعلنة في بسط نفوذها على بغداد، فلا يحتاج إلى ذكاء كبير.