أين يكمن الخلل في النظام الأميريكي؟

TT

كان يوم الثلاثاء 11 شتنبر (أيلول) الجاري يوما أسود في تاريخ الولايات المتحدة الأميريكية، مثلما كان محطة بارزة المعالم شاهدة على تطور تقنيات الإرهاب العالمي وقدرته الخارقة على زلزلة مواقِعِ مستهدَفي عملياته الشنعاء التي تستحق أكثر من الشجب والتنديد والإدانة.

كان اختراق الطائرات المختطَفة لناطحات السحب في نيويورك وواشنطن رسالة تحدٍّ صارخ لنظام الولايات المتحدة، واختبارا لقدراته على توفير المناعة لبلاد القطب الأعظم الذي تبين أنه كسائر أقطار العالم معرض للمخاطر وفي متناول قبضة الإرهاب العالمي رغم ما يملكه من تنظيمات تقنية دقيقة، وما يتوفر عليه من تجهيزات استخبارية أمنية محكمة كانت تقول عن نفسها إنها بلغت من الدقة ما يجعلها تُمسِك بالأنفاس حتى لا تخفى عليها خافية، وحتى لا تُفلت من رقابتها همسةُ بشر.

استهدفت العمليات الإرهابية في هجمتها الشَّرِسة على نيويورك وواشنطن اختراق السيادة الوطنية الأميريكية عندما حلقت الطائرة المختطَفة فوق البيت الأبيض وأحرقت جانبا من حديقته، وعندما كانت طائرة أخرى تهم باختراق طائرة الرئيس «بوش» الخاصة وهو في طريق العودة إلى مقر عمله وسكناه. واستهدفت العمليةُ الإرهابية القوةَ المسلحة الأميريكية عندما اخترقت الطائرةُ العاصمةَ وحطمت طوابق في مبنى وزارة الدفاع (البانتغون). واستهدفت القوةَ الاقتصاديةَ الماليةَ عندما نسفت بنيويورك المركز التجاري العالمي. ومن مجموع ذلك استهدفت العمليات بكلمة جامعة رموز السيادة الأميريكية، ومراكز القوة، ومصادر القرار. وهو ما يبرر قول الرئيس: إن الإرهاب شَنَّ على الولايات المتحدة الأميريكية حربا شاملة لا يسعها معها إلا أن ترد عليها بحربٍ مثلِها أو أشد.

وكانت الولايات المتحدة الأميريكية قد حصَّنت نفسها بدفاع مسلح قوي لا مثيل له، كانت تعتقد أنه يتحطم على صخرته العاتية كل غزو عَلَني أو متستر. ومضت إلى أبعد من ذلك حينما أعدت لدفاعها النووي درعها الحامي من الصواريخ النووية بما يجعلها قلعة منيعة لا تَقْوَى قوةٌ ـ مهما عَتَتْ ـ على اختراقها.

لكن في أقل من نصف ساعة وبدون سابق علم منها ولا إنذار من غُزاتها، سقطت أسطورة مناعة القطب الأعظم، فاستسلم للضربات القاتلة التي سقط تحتها آلاف الضحايا الأبرياء من مختلف الجنسيات العالمية، ومن بينهم عرب ومسلمون ومواطنو 30 دولة أجنبية غير مستقرين بأميريكا.

لا أظن أن أحدا أوتي مُسكةً من العقل أو من له ضمير بارزٌ أو متسترٌ يعطي لهذا العمل الإرهابي الفظيع تبريرا أو يتردد في شجبه والتنديد به وإدانته، فجميع القوانين الوضعية والتشريعات السماوية والإيديولوجيات الأخلاقية تُجمع على إدانته.

يقول القانون الدولي: «لا يُدان شخص بجريمة آخر». وفي القرآن الكريم: «لا تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى». ويقول: «ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق». ويقول: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

لقد كانت هذه العمليات زلزالا لم يصب الولايات المتحدة الأميريكية وحدها، وإنما زلزل المواقع والمفاهيم في العالم أجمع. ولا بد من تعميق البحث في أسبابه وبواعثه وخلفياته بالإضافة إلى معرفة هُوية من دبروه أو ساعدوا على تدبيره.

كيف يمكن تفسير قدرة المختطِفين للطائرات على التمكن من الوصول إلى أهدافهم واختراقها، وتفجير أنفسهم وركاب الطائرات وتحقيق أغراضهم بكل يُسر ودقة؟، وهل كان مقبولا أن لا تعلم الاستخبارات الأمنية الأميريكية بالحدث إلا بعد وقوعه؟

وكيف يمكن تصور ضرب المركز التجاري العالمي بنيويورك واختراق وزارة الدفاع بواشنطن ولا يفصل بين العمليتين إلا مدة 18 دقيقة دون أن تتعقب طائرةٌ دفاعيةٌ أميريكيةٌ واحدة جريمةَ الإرهابيين أو تعمل للحيلولة بينهم وبين إصابة أهدافهم؟، وهل يمكن أن نتصور أن إعداد العملية الإرهابية وتنفيذها استدعَيا من منظِّمي العملية أشهرا داخل الولايات المتحدة وخارجها ولم يصل الخبر إلى سمع المخابرات الأميريكية التي ترصد لها الميزانية الأميريكية 20 مليار دولار سنويا للتنصُّت على المكالمات الهاتفية فقط؟

قرأت في بعض الصحف الغربية أن الخبراء الاخصائيين يُجمعون على أن الحد الأدنى للوقت الذي يتطلبه إعداد هذه العملية وتنفيذها لا يمكن أن يقِلّ عن سنتين. فأين كانت المخابرات طيلة هذا الحد الأدنى؟

ثم هل يمكن أن نسلِم بأن وراء هذه العملية شخصا واحدا يوجد في بلاد مغلقةٍ على نفسها معزولةٍ عن العالم لا تملك بنية تحتية للاتصال والمواصلات، وأنه هو الذي قام بهذه العملية بما تتطلبه من تنظيم وتقنيات ومهارات وإحكام؟

من المؤكد أنه ليس وراء هذه العملية الوحشية الفظيعة بن لادن وحده، بل وراءها إرهاب عالمي أقدر على التفكير والتنظيم والتنفيذ من شخص واحد اسمه بن لادن أو شبيهٌ به. بل إني لأذهب إلى حد اليقين بأنه ما حصل يفوق مستوى خلية واحدة ولو كانت ممتدة الفروع، بل وراءه خلايا عالمية من الصعب اكتشافها، وبالأحرى احتواؤها، لكن هذا لا يمنع البحثَ عنها وتعقُبَها.

إن التحقيق في هذه الظاهرة يجب أن يكون أوسع رؤية وأشد قدرة على الاستيعاب والبحث والتعميق من مجرد تحقيق يقتصر على اعتبار شخصٍ فردٍ هو المسؤول، ويسلك طريق السهولة، فينسب هذا الإرهاب إلى دين هذا الشخص أو عرقه أو فصيلته في عملية تعميم أهوج يخبط خبط عشواء، ويتغيَّى أن يقال عنه إنه انتهى إلى التعرف على حقيقة صاحب الإرهاب أو حفنة من مساعديه.

إن إدانة شعب أو عرق أو دين بكاملها بجريمةِ فردٍ أو أفراد منتمين إليها هي إدانة عمياء شقيقتُها هي الجريمة الإرهابية العمياء التي تتوسع هي أيضا وتغالي في الإدانة الجماعية العرقية أو الدينية، وهي جريمة لا تُغتفر كما لا تُغتفر جريمة الإرهاب الجماعية.

ومع ما للعالم من مؤاخذات على الولايات المتحدة، فإن تضامنه معها في محنتها كان شاملا. ومن حقها أن ترتاح إليه، وأن تقدر بالأخص تضامن العالم العربي الإسلامي خاصة في شجب الإرهاب والتنديد به والتعاطف معها، ولكن عليها أن تستخلص العبرة التي تفرض نفسها. وهي وجوب تضامن العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة من أجل تركيز أسس نظام عالمي جديد يختلف عن النظام العالمي الذي نعيشه والذي فشلت تطبيقاته، نظام آخر هدفه نصرة القيم وإشاعة نظام العدل، ذي وجه إنساني مشرق، تعلو أهدافه النبيلة فوق الاعتبارات الظرفية الخاصة والحسابات الأنانية الضيقة التي لا تملك وضوح الرؤية ولا تستشِفُّ مستقبلا.