صوت عاقل في نيويورك

TT

وسط الحديث الموتور المستمر عن صراع الحضارات وتصادم الثقافات وحروب الأديان، يأتي خبر التصويت (وبالإجماع) من قبل هيئة الحفاظ على المباني التراثية التي وافقت على هدم مبنى قديم ليقام مكانه مركز إسلامي حديث يضم مسجدا ودارا للتعليم والتواصل الحضاري. ويجيء هذا التصويت بمثابة الخطوة الإدارية الأخيرة لإزالة العقبات أمام «مبادرة غرناطة»، وهو اسم المشروع الجميل المزمع إطلاقه بالقرب من موقع أبراج مركز التجارة العالمي الذي شهد عمليات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية.

وقد قوبل هذا المشروع بموجة غير بسيطة من الاعتراضات العنيفة من قبل الأصوات المتطرفة في اليمين الأميركي والحركات الصهيونية والمسيحية الأصولية، وكانت هذه المجاميع تصف هذا المشروع بأبشع ما يمكن أن يصور مثل «مركز الكراهية» و«قلب التطرف» وغيرهما من الكلمات الكريهة، لكن كانت هناك أصوات كثيرة في المقابل تطالب بالتطبيق العملي لحرية ممارسة الأديان، وعدم التفرقة بين المواطنين في الولايات المتحدة الأميركية بغض النظر عن الخلفية الدينية والعرقية، وهذه إحدى أهم القواعد التي بنيت عليها فكرة الدستور الأميركي الشهير. ومن أبرز أنصار ومؤيدي قرار بناء المركز الإسلامي عمدة نيويورك الحالي مايكل بلومبرغ، وكذلك المتحدثة باسم المجلس البلدي كريستين كوين، وانضم لهما الحاخام اليهودي روبرت ليفين الذي أعرب عن سعادته بنتيجة التصويت.

وهذه الأصوات العاقلة المتزنة كانت على مسافة كبيرة من أصوات محذرة ومتشنجة مثل ابراهام فوكسمان مدير رابطة مكافحة التمييز، ومعه نيوت غنغرش المتحدث الأسبق للكونغرس الأميركي، وسارة بالين حاكمة ولاية ألاسكا سابقا (وكلاهما مرشح للرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري في الانتخابات القادمة)، اللذان لم يكفا عن التحذير من بناء «مركز الكراهية» بالقرب من موقع الحادث الإرهابي الأكبر في تاريخ أميركا، ولما في ذلك من «احتقار لمشاعر أهالي ضحايا الحادث الإرهابي».

واقع الأمر أن المركز المزمع بناؤه على بعد 75 مترا من موقع الحادث سيكون مركزا حضاريا استثنائيا، يضم مركز عبادة للمسلمين ومكتبة ودار تعليم ومطاعم وناديا رياضيا ومركزا للتواصل الحضاري، ويقود هذه المبادرة عالم مسلم وإمام معتدل عرف عنه الخطاب المنفتح على الحضارات والثقافات الأخرى والتواصل العملي، ولا علاقة له بالخطاب والتصريح المتطرف أبدا، وهو أميركي، والمركز موجه للأميركيين المسلمين في المقام الأول.

هذا الحدث هو درس عملي وواقعي يوجه للخطاب المتطرف في العالم الغربي والعالم الإسلامي، وهو يؤكد أن المتطرفين هم أقلية وأن خطاب العقل هو الذي سيربح لو كتب له أن ينطلق من دون أحكام مسبقة وقيود ظالمة. المسلمون بالأغلبية المطلقة هم شعوب مسالمة ترفض التطرف والتشدد، ويعلمون تماما أن الخطاب المتطرف بينهم شاذ وغريب ويجب التصدي له، وكذلك الأغلبية العظمى من الأميركيين شعوب مسالمة مرحبة بالغريب وكريمة مع كل الثقافات، وأن الخطاب المتطرف الصهيوني المسيحي الأصولي لا علاقة له بالمبادئ التي قامت عليها أميركا كفكرة وكمبدأ. البقاء والأفضلية للأصلح وللأعم نفعا، والتطرف لا مكان له أيا كان موقعه وجنسيته وهيئته.

تحية إلى عقلاء نيويورك وحكمائها، وهنيئا للعالم بفوزه بجولة مهمة ضد التطرف والجهل.

[email protected]