في ذكرى الدروبي

TT

من المعتاد للعراقيات أن يحيين ذكرى موت أزواجهن بمأتم صاخب يكثر فيه النحيب والبكاء واللطم، ينتهي بوليمة سخية من الأطعمة التي كان المرحوم يحبها. يأكلن الدولمة والمحشي، ثم يخرجن من البيت ويبدأ التجريح: «يا عيني ولا مبين عليها الحزن! دمعة دمعتين وسكتت. لطمت على صدرها نص دقيقة وبطلت».

بيد أن السيدة سهيلة الدروبي لم تحتفل بذكرى زوجها، أستاذنا الرسام حافظ الدروبي، بمأتم. الفنانون لا يموتون. احتفلت بذكراه بمعرض لبعض أعماله الحية الموجودة في لندن. لم أتتلمذ على حافظ ولكنني عرفته مرارا ضمن نشاطاتنا الفنية وزياراته المتكررة لبريطانيا. فحكى لي كيف تلعب الأقدار دورها في حياة العراقيين. أدرك مبكرا أن التعاطي بالفن أفضل من التعاطي بالسياسة في العراق، وحتما أفضل من الاعتماد على الكتابة. ولكنه - رحمه الله - تطلع للمسرح وليس للفرشاة والأصباغ. وليقنع مدير المعارف سامي شوكت بابتعاثه لدراسة المسرح في أوروبا، قدم مسرحية عن البطولات العربية، قام فيها بدور بشر بن وائل في مصارعة الأسد. ودعا إليها السيد المدير. بالطبع قتل العراقيون آخر أسد عندهم في القرن التاسع عشر، ولم يبق في البلد أي أسود، وحلت محلها الثعالب والغربان. جاءوا بكبش ذي قرنين مخيفين ليمثل دور الأسد. تضمن الإخراج دخول الدروبي إلى المسرح بدشداشة بيضاء وسيف عتيد، وهو ينشد القصيدة الشهيرة:

* أفاطم لو شهدت ببطن خبت - وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

* إذن لرأيت ليثا زار ليثا - هزبر أغلبا لاقى هزبرا

* كان الخروف قد دخل المسرح من اليسار، ولكن يظهر أنه لم يكن من عشاق الشعر العربي، أو ربما لم تعجبه تلاوة حافظ الدروبي للقصيدة، فهجم عليه ونطحه من الخلف نطحة ألقت به خارج المسرح، فسقط في أحضان المدير العام. ضج المشاهدون بالضحك. فهنأه المدير على اختيار المسرحية، وقال له إن الخروف كان أروع من قام بدوره فيها. ثم دعاه ملاطفا لتناول الشاي معه في مكتبه. وهناك توسل له أن يعطوه بعثة لدراسة المسرح. أجابه سامي شوكت بأن هذا لم يعد ممكنا؛ فقد ابتعثوا حقي الشبلي لدراسة هذا الفن في فرنسا. وما يصلح للعراق أن يكون فيه أكثر من ممثل واحد. أجابه حافظ: «إذن فابعثوني لدراسة الرسم. فأنا أرسم أيضا»، أجابه قائلا: «أرنا ما عندك».

انهمك أستاذنا الفاضل برسم عدد من التصاوير، وأقام معرضا صغيرا لها، دعا إليه السيد المدير ومعالي وزير المعارف. ولم يكن في بغداد عندئذ ناقد فني ينبري في الكتابة ويخرب على حافظ الدروبي فرصته ويدمر له مستقبله. فرشحه الوزير لدراسة فن الرسم في إيطاليا، ثم أكمل المشوار في بريطانيا، وعاد لتدريس الفن وتسلم عمادة أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، قبل أن يمزق عملها المتشددون الأصوليون. فنم رغيدا في مثواك يا أستاذنا الجليل، ولا تر ما حل ببلدك ونهضتك الفنية من الخراب.