حل الدولتين: العراق

TT

حل الدولتين هنا ليس عن فلسطين وإسرائيل، ولكنني أتحدث عن حل الدولتين في العراق، محاولة لفهم ما يجري هناك. بعد أن جاء نوري المالكي إلى السلطة كوّن ما يعرف بتحالف «دولة القانون» الذي يتزعمه هو، ويحاول من خلاله الاستمرار في منصب رئيس الوزراء حتى لو كان ذلك ضد الشرعية والقانون. «دولة القانون» اسم ليس على مسمى، وذلك لأن تحالفات السيد نوري المالكي منذ أن تسلم السلطة لا تعتمد على المواطنة بل تعتمد على الطائفة وكذلك على القبائل كأساس اجتماعي لدعم سلطة. دولة القانون في كل العالم تؤكد على الحقوق القانونية التي أساسها المساواة والمواطنة، أما المالكي فقد خلق في فترة حكمه دولة موازية لدولة القانون، دولة من الميليشيات وزعماء الطوائف والقبائل، أي أن الدولة العراقية في عهد المالكي أصبحت دولتين: دولة رسمية تدعي أنها تؤمن بالقانون كأساس للمواطنة، ودولة قبلية وطائفية موازية هي أساس حكم نوري المالكي.

لذا، فلكي نسمي الأشياء بأسمائها، لا بد أن نعترف بأن المشكلة التي تتسبب الآن في حالة استمرار المالكي كرئيس لحكومة ناقصة الشرعية، هو أن هناك دولتين في العراق، الأولى رسمية قانونية وهي الأضعف، والثانية طائفية ميليشياوية تعتمد على القبائل وهي الأقوى. في ظل وجود دولتين في العراق لا يمكن حسم مسألة رئاسة الوزارة إلا إذا انتقل العراق من عالم الطائفة والقبيلة كدولة موازية أو دولة داخل الدولة إلى عالم الدولة القانونية الديمقراطية التي يكون فيها القانون هو الحاكم لا الطائفة ولا القبيلة. وهذا الأمر لا يستطيع حتى الأميركيون حسمه، فهو لا يحسم إلا من داخل العراق، وبمفاوضات جادة تسمي الأشياء بمسمياتها.

كان ذلك واضحا من خلال التحالفات الطائفية التي عقدها رئيس الوزراء نوري المالكي، فالحليف الأساسي له هو الائتلاف الوطني العراقي بزعامة عمار الحكيم وريث والده في زعامة المجموعات الشيعية المرتبطة بطهران. ويتصرف كل من عمار الحكيم ونوري المالكي حسب منطق الطائفة والقبيلة والعائلة لا منطق الدولة، حتى قرار الحكيم تعليق حواراته مع شريكه في التحالف الوطني، ائتلاف دولة القانون، إلى حين ترشيح شخص آخر غير رئيس الوزراء الحالي لرئاسة الحكومة المقبلة، لا يبدو قرارا جديا من وجهة نظر الكثيرين من المراقبين للأوضاع في العراق بشكل محايد.

ليس هناك من ينكر أن قائمة «العراقية» بقيادة الدكتور إياد علاوي قد فازت في الانتخابات الأخيرة على تحالف المالكي. الفارق بين «تحالف دولة القانون» الذي يقوده نوري المالكي وبين «العراقية» بقيادة إياد علاوي، هو أن تحالف علاوي يحاول أن يجمع تحت لوائه ألوان الطيف السياسي العراقي المختلفة، فتشمل قائمته كل الأطياف والأديان والقوميات في العراق تقريبا، فتجد فيها ناشطين من السنة والشيعة والأكراد والمسيحيين والتركمان والأقليات الأخرى. كما أن علاوي ما زال يصرح بأنه يريد العراق عربيا، بمعنى عدم موالاة رئيس الوزراء العراقي لإيران كما هو الوضع الحالي بصورته الواضحة والفجة. وعندما يكون العراق عربيا يحقق هذا الشرط فإنه سوف يتفق بلا شك مع الأكراد الذين هم أيضا لا يريدون عراقا يدار من طهران.

ومع ذلك، فقائمة إياد علاوي والمناصرون لها يمكنهم أن يقعوا في الفخ ذاته الذي أوقع فيه المالكي العراق، أي فخ الدولتين، دولة قانونية رسمية ضعيفة تعمل كواجهة مقابل دولة العشائر والطوائف الموازية غير الرسمية، والتي بيدها في حقيقة الأمر كل مقاليد الأمور.

نموذج حكم المالكي هو نموذج لبنان بالحرف الواحد، وجود دول داخل الدولة من خلال تحالفات أقوى بكثير من تحالفات الدولة ذاتها، فكما أن حزب الله قد غدا أكبر وأهم من الدولة اللبنانية، نجد أن كلا من جماعة الحكيم وحزب الدعوة أكبر من الدولة من حيث قاعدة الدعم الاجتماعية التي لها ارتباطاتها الخارجية طبعا. وقد يجعل أيضا دخول القبيلة كلاعب أساسي في مسألة الحكم في العراق، يجعل العراق أكثر اقترابا من نموذج اليمن منه إلى الدولة الديمقراطية أو دولة القانون.

وقد سمعنا أصواتا شيعية عاقلة تنتقد تحالف «دولة القانون» مع العشائر والقبائل والطوائف، كما جاء جليا في مقابلة نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي في مقابلته مع قناة «العربية» الشهر المنصرم، حيث حمل كتلة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي المسؤولية عن الفشل في التوصل لاتفاق حول تشكيل الحكومة العراقية. وقال: «إن إصرار دولة القانون على مرشح واحد لتولي رئاسة الوزارة مع رفض الآخرين لهذا الترشيح يضع البلاد أمام طريق مسدود، ويغلق الطريق أمام المضي في التفاصيل حول تشكيل الحكومة».

وقد نجح الأكراد في الشمال في إقامة دولة قابلة للحياة، ومع ذلك لم نتحدث عن حل الثلاث دول، لأن حل الدولتين الذي أتحدث عنه هنا دعوة إلى تفكيك الدولة الموازية للدولة الرسمية، الحل هنا بمعنى التفكيك والانفصام والتركيز على فكرة الدولة الواحدة. ليس أمام العراقيين سوى خيار الدولة الواحدة، ولكي تتحقق الدولة الواحدة لا بد من تفكيك الدولتين اللتين صنعهما نوري المالكي في فترة حكمه كرئيس وزراء للعراق، فهل العراقيون قادرون على القيام بهذه الخطوة؟ هذا هو السؤال.

في السابق، منذ قيام الثورة الإيرانية وما تبعها من أحداث، روجت واشنطن بأن الشيعة هم «الثورجية» والمتمردون، وبأنهم سبب مشكلات الشرق الأوسط. لذا لا بد لها من التحالف مع السنة أهل الحكم التقليديين في المنطقة الذين يفضلون الاستقرار على الثورة، فهم جماعة الأمر الواقع المحافظة.. هذا ما كانت تعتقده الولايات المتحدة منذ ثورة الخميني حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. فبعد هدم البرجين، اختلف الأمر، وراجت فكرة مؤداها أن السنة (وليس الشيعة) هم سبب المشكلة في الشرق الأوسط، فكل الذين شاركوا في عملية الحادي عشر من سبتمبر كانوا من السنة، أما الشيعة في العراق وفي إيران فهم من سيهدون للمنطقة نموذجا ديمقراطيا. وقد روج لهذه الفكرة صراحة برنارد لويس منظر «المحافظين الجدد» بقوله فيما يخص الشرق الأوسط إن «مشكلة أميركا هو أن أصدقاءها في الشرق الأوسط هم حكومات سنية معتدلة تحكم شعوبا متطرفة، بينما أعداؤنا في إيران فلديهم شعب ديمقراطي وحكومة متطرفة، لذا يجب على أميركا أن تتحالف مع الشيعة الذين هم الأمل في المستقبل لنشر الديمقراطية في المنطقة».. وما زال هذا هو التفكير الحاكم لإدارة باراك أوباما.

فهل الأميركيون اليوم سعداء بـ«ديمقراطية المالكي»، أو «الديمقراطية الشيعية» كما سموها؟ أم تعلموا الدرس وأدركوا بأن الديمقراطية تحتاج وقتا كي تتثبت في تربة الشرق الأوسط، وأن المسألة لا هي سنة ولا شيعة، بل هي تخلف الثقافة السياسية في المنطقة عند النخبة والعوام. هذه هي «الديمقراطية الشيعية» التي أرادتها واشنطن، ديمقراطية ولدت في العراق دولتين لا دولة واحدة.. واقع لن يغيره إلا العراقيون بحل الدولتين في العراق، الحل بمعنى التفكيك والانفصام. وعلى الأميركيين أيضا أن يتعلموا الدرس جيدا هذه المرة، بأن عليهم أن يستمعوا إلى أهل البلاد لا إلى خبراء في واشنطن لم تدس أقدامهم أرض العراق أكثر من سويعات تحت حماية السلاح.