بين فكي الكماشة الإقليمية.. لماذا لا نتعلم من البولنديين؟

TT

«الاستثمار في المعرفة يعطي أعلى فائض» (بنجامين فرانكلين)

* عندما انتخب الكاردينال كارول فويتيوا رأسا للكنيسة الكاثوليكية يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1978، وغدا - تحت اسم البابا يوحنا بولس الثاني - أول بولندي يصل إلى سدة البابوية، وأول بابا غير إيطالي منذ عام 1522، علق السياسي اللبناني الراحل الكبير ريمون إده بأنه «بابا الحرب».

التعليق لم يكن بهدف الانتقاص من مكانة البابا، الذي دخل حقا التاريخ كأحد أهم البابوات وأعمقهم تأثيرا، بل لأن هذا الاختيار جاء إبان استعار الحرب الباردة.. وانتفاضة حركة «تضامن» في بولندا لتفجير الحلف السياسي - العسكري العالمي الذي يحمل اسم عاصمتها (حلف وارسو) من الداخل.

فالفترة بين 1979 و1989 كانت فترة ترهل القيادة السوفياتية.. وصعود اليمين الراديكالي المتشدد في الولايات المتحدة مع رونالد ريغان، وبريطانيا مع مارغريت ثاتشر.. ولم تنته إلا بانهيار «جدار برلين» وتفتت حلف وارسو.. وبدء العد العكسي لانهيار الاتحاد السوفياتي ذاته خلال آخر أربعة أيام من عام 1991.

بولندا، لجهة هويتها القومية والدينية المتميزة لعبت دورا قد يكون تفصيليا في انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنه يظل دورا يتعلم منه الراصد السياسي دروسا مفيدة في خطورة الجغرافيا السياسية، وتلازم الولاء القومي والديني في بلورة الهوية الوطنية، وليس هناك من هم بحاجة لفهم هاتين الحقيقتين السياستين مثلنا نحن العرب. فالواقع المر أن العرب مهددون اليوم بأن يفقدوا وجودهم الجغرافي بعد سنوات كثيرة من طردهم خارج حركة التاريخ.

عودة إلى بولندا، نجد أنها ما كانت في يوم من الأيام دولة واضحة الحدود. بل في أوروبا الوسطى كلها تبدلت الحدود بمرّ السنين، وزالت منها دول ودوقيات وممالك، وسادت وبادت هويات لغوية وإثنية.. تحفظها اليوم إما اللهجات أو مظاهر الفلكلور بما فيها الأزياء والأكلات الشعبية. ومثلما يعتبر كثرة من البولنديين مدينة لفوف - أو لفيف - الأوكرانية مدينة بولندية.. فمعظم مدن النصف الغربي من البلاد لها أسماء وتقاليد ألمانيا.

وعبر قرون كان الشعب البولندي محشورا بين عملاقين، أحدهما شرقي أرثوذكسي هو روسيا، والثاني غربي بروتستانتي لوثري هو بروسيا، لكن الشخصية البولندية الرافضة للذوبان والاضمحلال صمدت بفضل تضافر الهوية القومية مع الكنيسة الكاثوليكية.. وسط العملاقين المسيحيين غير الكاثوليكيين.

اليوم يستغرب بعضنا كيف فقد العرب القدرة على إيجاد ما يكفي من الصلابة الداخلية للوقوف في وجه التحديات الإقليمية التي تحيط بهم من ثلاث جهات وتهدد بتذويبهم وتفتيتهم والقضاء عليهم. لماذا نجح البولنديون حيث نفشل نحن كل يوم؟

لماذا لا نقرأ جيدا تاريخ الحركة الصهيونية؟ لماذا لا نستوعب الصراعات الإقليمية التي عاشها العالم الإسلامي، لا سيما، الصراع العثماني - الصفوي بين تركيا وإيران؟

الصراع العثماني - الصفوي، أو السني - الشيعي، خلال القرنين الـ16 والـ17 كانت له انعكاسات مباشرة وبالغة التأثير على كل من العراق وبلاد الشام. ففي تلك الفترة تبادلت الدولتان العثمانية والصفوية السيطرة على العراق، وامتد التنافس بينهما إلى ما أصبح سورية ولبنان وفلسطين، حيث تنبهت الدولة العثمانية السنية الحنفية لاحتمال قطع شيعة جبل عامل طريق الحج على السلطان.. «خليفة المسلمين».

وفي الماضي، قبل تبلور مفهوم العروبة، كانت «شرعية» الخلافة عند الدولة العثمانية سبيلا لتقبّل العرب السنة العيش في ظل حاكم غير عربي عليهم، وكانت المرجعية الفقهية الاجتهادية بين العرب الشيعة - وتحديدا في العراق ولبنان - وبين إيران أكثر من كافية لتبرير وجود علاقة ولاء خاصة. لكن حركة «التنظيمات» أضعفت الصفة «الشرعية» للدولة العثمانية.. ومن ثم جعلت حركة «التتريك» من العرب فعليا مواطنين من الدرجة الثانية. واليوم لا ضمانات بأن حكم «الولي الفقيه» في إيران سيستمر إلى آخر الزمان.. مما يعني أن مناطق النفوذ الإيراني في بعض أنحاء العالم العربي قد تفقد غطاءها «الشرعي» فتتحول فعليا إلى مستعمرات فارسية.

ثم إن دول المنطقة ليست مهددة فقط بالفتنة المذهبية، بل - وهنا الأسوأ - تعاني من عدوان إسرائيلي مقيم يفاقم المعاناة الإنسانية لشعوبها، ويدمر الإمكانيات التنموية للمنطقة ككل، ويدفع الجميع نحو ثقافة غلو طائفي فئوي إلغائي من شأنها القضاء على أي فرص حقيقية للتعايش والتقدم.

أعتقد أن علينا استيعاب «الدرس البولندي».. وبسرعة.