قضية الفقهاء أم همّ المثقفين؟

TT

يعترض حديث تدبير الشأن الديني في المغرب سؤالان اثنان: أولهما يتصل بالمجالات التي يشكل مجموعها الحقل الديني المراد تدبير شأنه.. وثانيهما يتعلق بالجهة التي يعنيها أمر التدبير هذا: هل هي فئة الفقهاء، باعتبار القضية ذات صلة مباشرة بالدين، فهي تستدعي علما ودراية لا يمتلكهما إلا من كان في الدين ذا حظ عال من المعرفة؟ أم أنها انشغال عام يعني عموم المثقفين، ما دام يتصل بالشأن العام ويعني سكان البلد في عمومها؟ الحق أن تصورات خاطئة، كثيرة ومتمكنة معا، تحيط بالسؤالين المذكورين، وبالتالي فإن تشوشا كبيرا يمارس على الذهن، ومن ثم فإن القول فيهما يستدعي، بادئ ذي بدء، العمل على تبديد الغموض ورفع التشويش.

لنفحص، أول الأمر، السؤال الثاني المتعلق بالفئة التي يرجع إليها القول في الشأن الديني عامة وفي تدبيره خاصة، أهم الفقهاء أم أنهم عموم المثقفين الذين ينتسبون إلى الإسلام؟ الحق أن غموضا غير قليل يلف دلالة الفقيه في التصورات المغربية الشائعة. ذلك أن النعت ينسحب، بموجب هذه التصورات، على حفظة القران الكريم كافة، كما يشمل كل الذين يتوافرون على حدود دنيا من المعرفة الدينية (حفظ الأربعين حديثا التي جمعها النووي في المجموع الأشهر، تحفة ابن عاشر الموسومة بـ«المرشد المعين على الضروري من أمور الدين»، «الخلاصة الفقهية» لابن جوزي، وما شاكل ذلك). ولا يخفى أن نعت الفقيه على الحقيقة ليس يصدق، في الثقافة الإسلامية، إلا على من استطاع علمه الشرعي أن يرقى به في الدين إلى رتبة العلماء القادرين على الاجتهاد، أي أولئك الذين يصح الاعتداد بقولهم في الدين ويكون لإجماعهم على حكم شرعي وكذا اختلافهم فيه قيمة عملية، فتكون للحكم صفة الإلزام أو عدمه. نحن إذ نتحدث عن الفقهاء إذن فنحن نعني بهم هذه الزمرة القليلة من الناس أمثال ابن خلدون، الباقلاني، الطهطاوي، محمد عبده، الحجوي، ابن العربي العلوي، علال الفاسي ومن في شاكلتهم. ذلك أن القول في التدبير عامة، وفي تدبير شؤون الدين خاصة، ليس يكون في متناول صغار العارفين بأمور الشريعة، فهم لا يملكون مجاوزة دائرة الملتزمين بإمضاء الأحكام ومراعاة شروط الصحة في تنفيذ الشعائر والحرص على تطبيقها على الوجه الدقيق. وبعبارة أخرى فنحن نقول إن دائرة الفقهاء الذين يكون لهم أن يقولوا في تدبير الشأن الديني في الوجود الإسلامي في المغرب (بل وفي غيره من بلاد الإسلام الأخرى) دائرة محدودة لا يكون الولوج إليها إلا بشروط ثقيلة.

إذا كان كذلك فنحن، في الحديث عن صلة عموم المثقفين بتدبير الشأن الديني في المغرب، مطالبون بأن نكون أكثر حيطة وإدراكا لخطورة الدين ومكانته في الوجودين الروحي والاجتماعي. لا شك أن علماء الاجتماع، وعلماء الاقتصاد، وعلماء النفس، والفلاسفة، ورجال التربية، وكذا الأطباء، وكل الخبراء في الميادين التي تتصل بحياة الناس من أهل الملة معنون بالشأن الديني في معناه العام. ثم لا شك كذلك أن المأمول، بل الواجب، أن يجلسوا إلى الطاولة نفسها بجانب علماء الدين حين النظر في القضايا والإجراءات التي تتصل بإدارة الحقل الديني في المغرب. وللمغرب في هذا المضمار سابقة إيجابية كثر التنويه بها (ويحق أن يكون الأمر كذلك) والقصد بها المسطرة التي تم بواسطتها إعداد مدونة الأسرة في المغرب. على أن شرطا طبيعيا، بل بديهيا، تلزم مراعاته وهو شرط إعلان الانتساب الصريح إلى الشرع الإسلامي وعدم الغضاضة في التصريح بذلك. فهل يكون لمن كان خارجا عن محيط الأمة أن يشرع لها؟ وهل يصح له أن يقول في التدبير الديني برأي؟ وهل في الإمكان مراعاة الحد الأدنى من المصداقية من دون ما ذكرنا من شرط؟

إذا ما نظرنا الآن في السؤال الأول (المجالات التي يشكل مجموعها الحقل الديني المراد تدبيره في المغرب) فنحن نجدنا، أساسا، أمام مجالات كبرى ثلاثة تتفرع عنها ميادين أخرى. أولها القطاع الحكومي الموكل إليه أمر التدبير الديني من الناحية الإدارية. ثانيها الهيئة العليا للعلماء في المغرب. ثالثها الفتيا وما اتصل بها تصورا وتنظيما.

في كل نريد التقدم بعناصر رأي، نصوغها على سبيل الإيجاز والتعميم الذي لا يخلو، بطبيعة الأمر، من ابتسار في القول.

أفردت الحكومة في المغرب، على مر العصور، قطاعا أوكلت إليه مسؤولية الإشراف على كل المجالات التي تتصل بإدارة الشأن الديني (على النحو الذي لمحنا إليه في الحلقة السابقة)، ومنذ استعادة المغرب لاستقلاله (بعد أزيد من أربعة قرون من الاحتلال) أصبح وزير الأوقاف في المغرب (وزير الأحباس حسب التسمية التاريخية) وزيرا مسؤولا كذلك عن «الشؤون الإسلامية».. قد يجب أن نوضح فنقول إن المسؤول عن الشؤون الإسلامية في المغرب، على الحقيقة، هو ملك البلاد - بموجب الدستور والعرف التاريخي - وحيث إننا لا نستهدف التفصيل في ذكر أمر هذا القطاع الحكومي ونظامه من جهتي القانون الإداري والتشريع الإسلامي، فنحن نوجز الحديث على النحو التالي:

قطاع الأوقاف في المغرب يستوجب تحديثا شاملا في بنياته وآلياته وطرائق عمله حتى يكون أكثر استجابة لمتطلبات المجتمع الحداثي الديمقراطي الذي نكثر القول فيه، وهذا من جهة أولى، ولمقتضيات الوجود الديني من جهة أخرى.

لا بد من التنويه بالظهير الملكي الصادر مؤخرا، فقد أحدثت بموجبه هيئة عليا يؤول إليها الإشراف على الصفقات التجارية الكبرى التي تتصل بأوقاف المسلمين، ذلك أن هذا الظهير قد وضع حدا لعمليات من النهب وسوء التدبير سادت القطاع المذكور عهدا غير قصير من الزمن (ما كان من الأموال ثابتا وما كان منقولا، مما كان حديث الصحافة في السنوات الأخيرة)، فالتدبير أمر بشري محض، ومن حيث هو كذلك، فهو يستوجب، بين الفينة والأخرى، مراجعات شاملة للسياسات والأشخاص، ويستدعي ضخ دماء جديدة وكذا إعادة النظر في الاختيارات والوسائل فضلا عن القائمين على الأداء والتنفيذ.

أما المجلس الأعلى للعلماء في المغرب فإن المنطق والتاريخ والشرع في المغرب أمور تقضي كلها بالرجوع بالمسؤولية العليا في ذلك إلى أمير المؤمنين. والحق أن الشأن في ذلك لم يتنكب هذا السبيل أبدا، وواجب الاعتراف بالجميل يحملنا على القول إن الإرادة الملكية في البلاد ما تفتأ تعمل على الدفع بهذه الهيئة في اتجاه ما نقول عنه إنه سبيل الاجتهاد الجماعي الضروري لزماننا هذا، لكن الدرب لا يزال طويلا، ولا يزال الطريق محفوفا بالمكاره أحيانا. غير أن التنظيم والتسيير المباشر، أي التنفيذ والاقتدار على إدراك المرامي البعيدة، يستدعي، بدوره، وقفة المراجعة والمساءلة، كما يقتضي تجديد الدماء. ثم إن القول في المجلس العلمي الأعلى لعلماء المغرب يقتضي، وهذا شيء طبيعي، العمل على إحداث مراجعات في الوسائل والأشخاص، والتحلي بنظر جديد في نظم المجالس العلمية الجهوية وتدبيرها. على أن حديث العلماء والمجالس العلمية الجهوية، وكذا القول في تكوين أجيال العلماء، حديث ذو شجون وإنه مما يستوجب المكاشفة والمصارحة ويقتضي التحلي بالجرأة الصادقة مع إخلاص الطوية والنصح لمن يكون ذلك في حقه واجبا.

تبقى في الأخير مسألة الفتيا وما يتصل بإصدار الفتاوى الشرعية في البلاد، ومسؤوليات كل من القطاع الحكومي المسؤول عن التدبير الإداري للشأن الديني في المغرب، والمجلس العلمي الأعلى للعلماء، والمجالس العلمية الجهوية في المغرب. قد ينبغي أن يعلم القارئ الكريم أن المغرب، من بين كل دول العالم الإسلامي، يكاد ينفرد بغياب منصب المفتي العام للبلاد ومؤسسة الإفتاء الرسمية للدولة. الحق أن هذا الغياب قد كان، على الدوام، سمة إيجابية ميزت الشخصية الدينية في المغرب، فكانت في انسجام تام مع البنية المغربية في كليتها. والحق كذلك أن التقليد المغربي كان يعتبر المفتي على الحقيقة - وأمير المؤمنين - بتوسط العلماء، أخذا بالمبدأ العام الذي يقضي بوجود الرحمة في اختلاف العلماء في الفتاوى التي يصدرون. لكن الحق أيضا أن تعقد الحياة المعاصرة من جهة أولى، وتنامي الدعاوى الغريبة التي تحمل الإساءات البالغة إلى وحدة الأمة وتتهدد الجماعة، وهذا من جهة ثانية، وسرعة انتشار ظاهرة الجراءة على الدين والقول فيه عن جهل من جهة ثالثة، كل هذا أصبح يستوجب وقفة جامعة ومراجعة شاملة ويستوجب حوارا صريحا يأخذ بعين الاعتبار ما جد من الاعتبارات اجتماعيا وثقافيا.

ساءت الأمور وبلغت من الشدة أحيانا أن أشخاصا يكاد حظهم من المعرفة الدينية على الحقيقة يقارب الصفر أصبحوا يصدرون فتاوى بتزويج فتيات دون العاشرة، وأخرى في الحياة الزوجية، وغيرها في أمور تستوجب علما غزيرا ووعيا جماعيا يعلو على إفهام أصحابها من دعاة الفتنة وشرار الخلق.

* كاتب مغربي