ماذا لو حلت قضية فلسطين؟!

TT

بعيدا عن دهاليز المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، فوق الطاولة أو تحتها، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تبقى هذه القضية «الخالدة» محور السياسة العربية منذ 1948، سنة إعلان دولة إسرائيل، بل قبل ذلك بقليل، إلى يومنا.

بسبب هذه القضية، إضافة لأسباب أخرى طبعا، طرد فاروق من ملك مصر، وخلع من عرشه، وشحن على سفينة مبحرة باتجاه الشواطئ الإيطالية، كما أسقط حكم الملك السنوسي في ليبيا، على يد ضباط ينتمون لنفس الخطاب الثوري لجماعة عبد الناصر. وبسبب هذه القضية وقعت في مصر سلسلة من الحروب الكبرى والصغرى، وصولا إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، وزيارة الرئيس السادات لإسرائيل، تلك الزيارة التي قسمت العالم العربي عميقا.

بسبب القضية نشأت جماعات عنف إسلامية، وقبلها يسارية وثورية، كجورج حبش ووديع حداد وأبو نضال وأبو داود، وأحمد جبريل وفتح الانتفاضة وفتح الثورية وفتح الإسلام.. بسبب القضية تضخم حزب الله، وفاض سلاحه على أهل لبنان وسكان بيروت.

ويبقى السؤال الدائم: هل يمكن حل القضية الفلسطينية يوما ما؟

كثير من العرب والمسلمين لا يتخيلون إمكانية حصول ذلك. وعبر أي طريق، وفي أي عهد، وضمن أي شروط، وكيف سنعيش لو انتهت القضية الفلسطينية؟

هل الأجيال الجديدة تمتلك نفس الحماسة والرغبة في جعل «القضية» محور حياتهم وتفكيرهم السياسي؟

سؤال من الصعب أن نجيب عليه بشكل حاسم ودقيق، ثم هل ما يعرض في الإعلام الموجه للعرب والمسلمين عن صورة القضية هو بالضبط نفس ما يراه أهالي فلسطين الساكنون داخلها؟

أعني أن من يسكن خارج فلسطين، من العرب والمسلمين، قد يرى الأمر بتهويل ومثالية لا ينبعان من الواقع، عكس ما يرى صاحب القضية نفسه، الذي هو إنسان وبشر في نهاية الأمر يريد أن يعيش الممكن له من حياته بملبس ومأكل ومأوى حسن، وفوق هذا، دون حروب أو قهر عسكري. كما قال محمود درويش، شاعر القضية الأول: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

أخطر شيء أن يتعامل معك الآخرون وكأنك فوق الطبيعة، بطل من السماء أو حائط مبكى تذرف على صدرك العبرات، التي يفترض أنها من أجلك، لكن هذه الدموع المتوالية المنهمرة بلا توقف، قد تخنق صاحب القضية نفسه، وتحجب العين الواقعية «الطبيعية» عن رؤيته بشكله الحقيقي.

سواء كانت النظرة لك بصفتك شيطانا أو ملاكا، فأنت في الحالتين من يخسر القدرة على التعامل الواقعي مع الحياة، وعلى جعل الآخرين يتعاملون معه بشكل طبيعي، فلا هو شيطان مريد ولا هو ملاك طاهر.

بكلمة أخرى: لماذا فقدنا القدرة على التعامل مع المأزق الفلسطيني بشكل واقعي وطبيعي؟ دائما ما يتردد في التحليلات العربية أن الطرف الإسرائيلي هو من يخاف، في العمق، من ضريبة السلام وتطبيع الوضع مع العالم العربي، وهذا إلى درجة كبيرة تحليل صحيح، على الأقل بالنسبة لليمين الإسرائيلي، ودعاة القطيعة، فالسلام يعني إعادة تشغيل العقلية الإسرائيلية وإخراجها من خندق الانعزال والذعر والغيتو اليهودي.

صحيح هذا التحليل، لكن ما لا يذكر هو: هل يخاف بعض المثقفين العرب والساسة من إمضاء السلام إلى نهايته وإنهاء القضية الفلسطينية، عبر حلها؟!

هذا سؤال يجب التفكير فيه، بصرف النظر عن الواقع الحالي الآن مع إسرائيل، فهل يمكن للوعي العربي العام أن يقبل بأن يصحو ذات يوم دون أن تكون القضية الفلسطينية هي «الملطمة» التي نلطم بها خدودنا ونشق جيوبنا كل يوم؟

كلنا يعرف أبرز محطات التفاوض بين الفلسطينيين والعرب مع إسرائيل، خصوصا منذ أن اعترف ياسر عرفات بحل الدولتين سنة 1988 واعترف بقرار مجلس الأمن 242، منذ تلك اللحظة المفصلية على مستوى الشعور، ونحن نراوح في المكان خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الخلف، كلما حصل تقدم أو انفراج ما، إما أن يعطل من طرف عربي أو فلسطيني ما، أو من طرف إسرائيلي كما حصل مع قاتل رابين أو مع حكومة نتنياهو الحالية.

هل يمكن التعامل مع القضية الفلسطينية كنزاع قابل للحل؟

أم هو نزاع عصي على الحل؟ وإذا كان مستحيل الحل، فلماذا الركض في السراب؟

ثم هل العرب جادون في محاربة إسرائيل وإنهاء وجودها من الأرض كما نسمع دوما؟ إذا كان الأمر كذلك، وهو ليس كذلك طبعا، فلماذا لا تركب السياسات العربية العامة على أساس الحرب لا السلام؟

نريد حربا ونريد سلاما وتنمية في نفس الوقت! هذا لا يمكن، كل ما يحصل بسبب هذه الفوضى في المواقف هو فتح هامش واسع لمن يريد «حلب» القضية على مستوى حصد الشعبية في الشارع.

ربما كثير من الجماعات والأصوات الإعلامية العربية ستفقد معنى وجودها لو حلت القضية الفلسطينية كما حلت نزاعات دولية أخرى من قبل؟

كثيرون سيصابون بالكآبة، وحالهم مثل حال الزير سالم، أبو ليلى المهلهل، الذي ظل يحارب جساس، قاتل أخيه كليب وائل، أربعين سنة في حرب البسوس، مع أنه كان يمكن أن ينهي المعركة بشكل أسرع ويقتل جساس، ولكنه لو قتل جساس لفقد المعنى الذي ربط حياته به وهو: الثأر!

ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون قصيدة أمل دنقل الشهيرة «لا تصالح» هي أنشودة الرفض العربي لأي إمكانية حصول تفاوض أو حل سلمي للقضية الفلسطينية، فهذه القصيدة تستمد روحها من قصة الزير سالم وعبادة الثأر الحارق، لصاحبه، قبل أن يكون حارقا للذي يراد الثأر منه!

حسب مقاربة الرفض الدنقلي (نسبة للشاعر دنقل) فإنه لا يجوز التعامل مع القضية بشكل يجعلها قابلة للحل، لا حل، الحل شتيمة وإهانة للقضية، كما كان الزير سالم يعتقد بأن قتل جساس لا يحل القضية:

«لا تصالح

... ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما

هل ترى؟

هي أشياء لا تشترى».

إذن هي أشياء: لا ترى ولا تشترى، وعليه فلا يمكن ملامستها أو محاورتها أو وضعها على ارض الواقع، هي أشياء لا ترى..!

هذه الأيام قرأت كتاب السياسي والأديب السعودي غازي القصيبي، شفاه الله، بعنوان «الوزير المرافق» تحدث فيه عن بعض ذكرياته وانطباعاته عن من رآهم أو رافقهم أو حادثهم من ساسة العالم وملوكه.

فكان مما ذكره بعض التفاصيل الهامة عن قمة فاس (نوفمبر 1981) التي أطلق فيها الملك فهد مبادرته لحل القضية الفلسطينية وكانت مبادرة مبنية على 8 نقاط، وقد حصل عليها توافق عربي إلى درجة كبيرة، وتحملت السعودية ثقل هذه المسؤولية، تحدثت مبادرة فهد عن انسحاب إسرائيلي كامل ودولة فلسطينية مستقلة وتعايش دول المنطقة. وأبدى كثير من الزعماء العرب دعمهم للمبادرة، حتى عرفات كان غير رافض لها، وإن كان تأييده بدا غير واضح بسبب جماعات الرفض الفلسطينية والعربية.

المهم في هذا كله هو جملة خطيرة قيلت في خضم قمة فاس، حيث اشتد النقاش، وطرحت السعودية والدول المساندة رأيها في دعم المبادرة، وقال الآخرون ما قالوا، انزعج الملك فهد من التجريح في السعودية والمزايدة عليها فأعلن سحب المبادرة، وظلت القمة في حالة انعقاد معلق، وحين غادر الملك فهد المغرب متجها إلى إسبانيا ووصل إلى هناك، قال غازي الذي كان شاهد عيان: «كان يعاني الكثير من الكآبة وخيبة الأمل، بقي في قصره طيلة الوقت ولم يخرج سوى مرة واحدة، كان يتحدث عن الموقف العربي بيأس، كان يقول: إن أراضينا لم تحتل وشعوبنا لم تشرد، وقد فعلنا كل هذا من أجلهم، فماذا كانت النتيجة؟ أن نجرح ونشتم!.

كان يردد بعض ما قاله احد أعضاء الوفد الفلسطيني خارج القاعة: لماذا تتدخل المملكة؟ نحن قابلون بتشريد أبنائنا واحتلال أراضينا، قابلون بهذا الوضع ولا نريد السلام!

كان (الملك فهد) يقول: كيف يمكن التفاهم مع أمثال هؤلاء!؟». (كتاب «الوزير المرافق» لغازي القصيبي ص192، و193).

الفكرة من وراء هذا كله أنه في اللحظة التي نتعامل فيها مع قضية ما بشكل يخرجها من الإطار الطبيعي إلى إطار متعال غير قابل للحل، فإننا نخرج من عالم العقل إلى عالم العاطفة، ويصبح التفاهم مفقودا بسبب فقدان الرابط المنطقي بين الأشياء.

[email protected]