على أبواب المفاوضات المباشرة

TT

لا أدري شخصيا ما إذا كان قرار الدخول في المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين سوف يكون نهائيا مع نشر هذا المقال؛ كما أنني لا أدري ما إذا كان هذا القرار هروبا إلى الأمام لأن المفاوضات غير المباشرة لم تتوصل إلى شيء، أو أنها سوف تكون مقدمة لما هو أكثر لأن «الاتفاقية» جاهزة بالفعل استنادا إلى نص نجم عن مباحثات الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وسجلته وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس خلال الأيام الأخيرة لإدارة الرئيس السابق جورج بوش.

المتشائمون أو هؤلاء الذين يرون صورة اليمين الإسرائيلي في الحكم والانقسام الفلسطيني بين دولتين، يرون في الموضوع جولة أخرى من جولات ملء الفراغ الدبلوماسي والسياسي استعدادا لما هو أهم في الساحة السياسية للشرق الأوسط، وهو المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران من جانب آخر. والمتفائلون، وهم الذين يرون أن التناقضات الجديدة في المنطقة بين الغرب من ناحية وإيران والأصوليات الإسلامية من جهة أخرى، لم تعد تسمح باستمرار الصراع لعقد آخر، وجولة أو جولات حرب جديدة. وسيناريو التشاؤم يقوم على أن المفاوضات سوف ترفع سقف التوقعات التي يعقبها عادة إحباط قاتل تكون له نتائج عنيفة في العادة، إلى جانب أن رائحة السلام أو التسوية عادة ما تجذب - كالدماء - كثيرا من أسماك القرش فتبدأ دائرة العنف فتكون الحرب بدلا من السلام. وعلى أي حال فقد بدأ السيناريو في التطبيق فعلا بالتوتر الذي جرى على الحدود الإسرائيلية - اللبنانية، والصواريخ التي أطلقت على إيلات والعقبة لا تفرق بين عربي وإسرائيلي.

سيناريو التفاؤل يرى أن الرئيس باراك أوباما يدرك، إلى أي حد، أن توجهه نحو العالم الإسلامي، والسياسة الدولية بوجه عام، يوجد اختباره في الشرق الأوسط، وهو يعرف على الأقل من الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة «بروكينغز» تحت إشراف شبلي تلحمي والذي يقطع بأن الرجل يواجه تراجعا شديدا في شعبيته، وربما قرأ أو قرأ له أحدهم، مقال مارك لينش عن «انهيار شعبيته» في الشرق الأوسط. وربما لا يهم أوباما كثيرا مدى شعبيته خارج بلاده، ولكن الأمر هنا أنهما يكادان أن يكونا مترابطين؛ وإذا كان التراجع في الداخل يعكس سياسته الداخلية وبقاء البطالة عند 9.5% ولا تتزحزح عنه، فإن الفشل في الشرق الأوسط سوف يوضع فوق البطالة ويصبح على الرئيس الأميركي أن يواجه انتخابات التجديد النصفي مجردا من كل نجاح. ولكن المتفائل يرى ما هو أفضل في الصورة، وهو أن نتنياهو حدد أولوياته وهي المواجهة مع إيران، ومن ثم فإن التناقض مع العرب والفلسطينيين يمثل تناقضا «ثانويا» يمكن حله، وإذا كان هناك من يخاف على وحدة حكومته واتجاه الأحزاب المتطرفة إلى الخروج من الحكومة، فإن بوسعه تشكيل حكومة لا تقل قوة عن الحكومة الحالية بالائتلاف مع حزب كديما الذي أجرى الاتفاق السابق، وهو ما يكفي ليس فقط للتوقيع على اتفاق مقبول؛ ولكن للتصديق عليه في الكنيست أيضا.

المتشائمون يرون أن كل ذلك أضغاث أحلام، وأن الصراع فيه قوة داخلية تجعله قادرا على البقاء لسنوات طويلة، وعلى مدى أكثر من مائة عام اختلف فيها العالم وتنوع بضع مرات بين قيام دول وإمبراطوريات وانهيارها، ونشبت فيها حروب عالمية ساخنة، وجرت فيها حروب عالمية أيضا ولكنها باردة، واتحد العرب واختلفوا، وتلاقوا وتباعدوا، وعاشوا السلم والحرب معا، واهتمت الدنيا بالصراع وأهملته، واتخذت مئات القرارات بعد عقد مئات الاجتماعات، وفي كل الأحوال بقي الحال على ما هو عليه. وكل ما علينا هو مشاهدة شكل العنف القادم وهل يكون في شكل العمليات الانتحارية أم الحرب على غزة أم حرب مثل تلك التي دخلها الشيخ حسن نصر الله بحسابات خاطئة. المهم هو أن الصراع قادر دائما على ابتداع أشكال جديدة ومفاجئة للقتل والتدمير؛ وربما كانت هناك محاولات للحل السلمي، ولكن الحال الغالب على الصراع منذ بدايته هو اتفاق الجميع على التعايش معه.

المتفائلون يرون في الصورة ما هو أكثر، وعلى مدى ما يقرب من عامين سكتت المدافع على الجبهات كلها، وما يتردد فيها من طلقات رصاص هو لإثبات الوجود أكثر من كونها حربا حقيقية. وهناك لحظة عالمية داعية للاهتمام بالصراع وانتهاز الفرصة هذه المرة، وربما لا توجد قضية اتفقت فيها روسيا وأميركا والهند والصين وأوروبا واليابان على الحل كما هو مطروح الآن. وإذا كانت الولايات المتحدة هي مفتاح الحرب والسلام، فإن واشنطن تسعى سعيا حثيثا الآن لكي تصل بالصراع إلى نقطة جديدة تتجسد فيها تسوية لا تقل في أهميتها عن التسوية المصرية - الإسرائيلية أو تلك الأردنية - الإسرائيلية. ولكن الجديد جدا هذه المرة هو بزوغ دور قوي للعالم العربي والجامعة العربية، ومن يتابع الصراع العربي - الإسرائيلي منذ بدايته يجد أن العرب قد استولوا على الصراع منذ بدايته عام 1948 حتى تخلوا عنه بعد حرب يونيو (حزيران) 1967، حيث تركوا للفلسطينيين حق تقرير المصير، ليس فقط تجاه إسرائيل بل تجاه العرب أيضا. وبعد ذلك دار الزمان دورته، ولم يستطع الفلسطينيون بالحرب والسلام تحقيق ما هو أكثر من اتفاق أوسلو الذي انهار مع فشل مباحثات كامب ديفيد، ومن كان لديه أمل آخر ضاع مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وبينما كان الزعيم عرفات محبوسا في مبنى «المقاطعة» ظهر العالم العربي مرة أخرى عندما تقدمت السعودية بالمبادرة العربية، ومن بعد القمة العربية في مارس (آذار) 2002 صارت المبادرة عربية، ومن ساعتها حضر العرب في كل التطورات الجديدة من خارطة الطريق حتى عملية أنابوليس، وصولا إلى لجنة المتابعة العربية التي يرجع إليها أبو مازن للحصول على شرعية التفاوض والتوصل إلى نتائج. وبقيت نقطة أخيرة، وهي أنه لا بديل لحل الآن على أساس الدولتين إلا ما سوف ينتج عن فشل المفاوضات المباشرة وهو أنه لا مجال آخر إلا لحل الدولة الواحدة، وهو حل يطرحه كل على طريقته؛ المتطرفون والمتشددون؛ الفلسطينيون والصهاينة.

أعرف أن هناك من لا يرى المسألة رؤى للتفاؤل أو التشاؤم، ولكن الواقع أن هذه تعبيرات أخرى لوجهات نظر وسلوكيات سياسية جارية في الواقع وتدفع الأحداث في اتجاهات مضادة لبعضها. والمسألة هنا أن القوى متعادلة إلى درجة مخيفة، وربما كان ما يحتاجه الأمر هو اتجاه من الكتلة الحرجة للعناصر والدوافع نحو هذه الناحية أو تلك، ومن يظن أن ذلك يجري في واشنطن فقط يكون على خطأ كبير.