«لبيك يا نصر الله».. لبنان بين الحكمة والمحكمة

TT

لمن يعرف مدينة بيروت يشاهد مبنى من عدة طوابق مطلا على ساحة السوديكو واقفا هناك منذ عشران عاما مهترئا كامرأة عجوز بلغ منها الكبر عتيا، سقطت أسنانها وتجعد جلد وجهها. هذا المبنى المثقب بقذائف المدافع ورشقات الرصاص، يترنح شاهدا على «أخلاقيات الحرب» أو «أخلاقيات الفوضى» التي خاضها اللبنانيون رضا أو غير ذلك بين بعضهم، إبان الحرب الأهلية المهلكة التي يمكن أن تتكرر على الأسوأ. هذا المبنى ليس وحيدا في العاصمة، فمثله كثير، تحمل جميعها صورا ناطقة لما تركته الحرب الأهلية الضروس من دمار. اليوم بين أمل اللبنانيين في الخروج من المأزق التاريخي الذي يعيشونه، وبين وقوعهم بين فكي الحروب القادمة، إما الأهلية أو الخارجية، يقف لبنان على مفترق طرق قد يقود البلاد إلى التصدع.

المخفي عن الأنظار في لبنان هو ما بالنفوس، الذي يمكن أن يُخفى مؤقتا تحت ستار المجاملات، ولكن سرعان ما يبرز، مع أول احتكاك سياسي أو حتى مناقشة لموضوع عام، لتظهر فرقة اللبناني عن اللبناني الآخر. أما آثار حرب 2006 التي احتفل بذكراها حزب الله في الثالث من أغسطس (آب) 2010، فقد خلفت ألف قتيل على الأقل، وهدمت من المنازل والعمارات والمساجد والكنائس والجسور ما احتاج إلى ضخ أكثر قليلا من بليون وثلث البليون من الدولارات من البلاد العربية فقط، لإعادة بعض الإعمار لا كله، عدا الدعم الدولي، ونزوح أكثر من مليون مهجر من الجنوب.

لبنان البلد الذي يؤكد وزير الشؤون الاجتماعية فيه مؤخرا أن ربع مواطنيه يعيشون على أربعة دولارات في اليوم، والذي تظهر فيه الدراسات التحيز الطائفي الصارخ بين شبابه ضد «اللبناني» الآخر، كما تؤكد دراسة الجامعة الأميركية التي صدرت مؤخرا!!.

لبنان ينشق اليوم بقسوة على نفسه، بين فريق يطمح لوجود دولة، وفريق يعشق التسيب. لبنان الذي لا نعرف كم نسبة البطالة بين مواطنيه، كما لا يعرف المواطن فيه حدود وحقوق الدولة، وحدود سيطرة الزعامات المختلفة، يتحول من جديد إلى بؤرة صراع ساخن تهدد باشتعاله والمنطقة أيضا. لبنان الذي يوجد من أبنائه الكثير من المبادرين والمفكرين والعقلاء ومحبي الحياة على شفا أن ينتكس إلى «دولة فاشلة».

فتيل التفجير اللبناني، وبالتالي المنطقة ككل، هي ليست فقط تلك التناقضات الحادة السياسية والاجتماعية والطائفية التي تكنس آثارها تحت السجاد من الكلام السياسي، الفتيل هو ما سوف تعلنه لائحة الاتهام في مقتل الرئيس المرحوم رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، أو ما يعرف لبنانيا «بالقرار الظني» الذي سوف يشار فيه إلى من اغتال رجل الدولة ورفاقه، في منحنى طريق الكورنيش، مقابل فندق السان جورج المهجور، في يوم الرابع عشر من شهر فبراير (شباط) عام 2005.

حقيقتان ثابتتان:

هناك حقيقتان في المشهد وجب العناية بهما، الحقيقة الأولى أن طريقة اغتيال الحريري - لأي مراقب - كانت معقدة، فهي احتاجت إلى سرية عالية في التنفيذ، كما أنها بالضرورة احتاجت سرية مطلقة وإلى تعاون مجموعة من الناس تجمعهم عصبية خاصة، حتى يتكتموا جميعا على ما نفذوه، وتحتاج قبل ذلك إلى تخطيط، على الأقل متوسط المدى زمنيا، والحصول على معلومات وأجهزة حديثة مساعدة، وقدرة على التخفي والذوبان بعد الفعل. كما تحتاج المجموعة إلى أعمال تمويه لاحقة، وكما أن بها منفذين، لا بد أن يكون هناك محرضون. أي إن عملية الاغتيال تمت بجهاز مدرب عالي القدرة ذللت له إمكانيات مادية وتقنية لا تتوفر لمجموعة من الهواة، وأن هناك من استفاد أو توقع الاستفادة من الاغتيال، تلك حقيقة أولى.

أما الحقيقة الثانية، أن المحكمة الدولية قد ولدت من رحم مناكفات سياسية طويلة في لبنان وخارجه، انتهت إلى تشكيل «محكمة دولية» تحت مظلة مجلس الأمن الدولي. وبالتالي لها حصانة دولية عالية، وأيضا وفر لها إمكانيات مهنية وتقنية عالية وأخذت وقتها في الاستقصاء والبحث، وبالتالي فإن أي «اتهام بأي اتجاه» صادر عنها سيكون له «القبول العقلي» من طائفة واسعة من اللبنانيين والعرب والمهتمين في العالم، خاصة إن أردَفت اتهامها بأدلة مادية وعقلية قطعية مقنعة، وأشارت إلى هذا الطرف أو ذاك بارتكاب تلك الجريمة، تلك هي الحقيقة الثانية.

أمام هاتين الحقيقتين نجد أن هناك غبارا سياسيا يثار إلى درجة التهديد بالفتنة، على غموض العبارة، وهي إشارة إلى قلب الطاولة في لبنان كليا، ولها معان منها أن يؤخذ لبنان إلى مكان ما من حرب أهلية شعواء. ما سرب حتى الآن لا يستطيع أحد، وهو لم يطلع على حقيقة ما يدور في أروقة المحكمة، أن يجزم به. إلا أن التسريب يشير إلى أن «عناصر من حزب الله» قد يكونون من المنفذين. وكل الغبار السياسي المثار والمهدد بالتوجه إلى «الفتنة» مع ما تعنيه من كارثة، يهدف - في الغالب - إلى دفع الأطراف «المتضررة» من عملية الاغتيال، التي ظلت في الخمس سنوات الماضية، تطالب بإظهار الحقيقة، أن يدفع بها مباشرة أو «مداورة» كخفض أو إلقاء تلك المطالب في البحث عن الحقيقة، عن طريق القول علنا والتصرف فعلا أن «المحكمة الدولية» «معيبة»، لا يهم نوع العيوب تلك، قد تتهم بأنها «إسرائيلية» أو أية تهم أخرى. فالمعادلة الصفرية المطروحة اليوم في لبنان، إما المحكمة، وإما الفتنة. أي إما أن يبتعد القرار الظني عن أي ذكر لأي عنصر له علاقة بحزب الله أو الفوضى. المحكمة ليست امرأة قيصر، حتى لا يأتيها الخلل، إلا أن الجسم القانوني العالمي لا مساحة فيه لغلق الملف بهذه البساطة بعد طول انتظار وعمل دولي معمق، كما أن التشكيك الكثيف بها يقع في مكان ما من نظرية المؤامرة، خاصة إن تم قبل أن تعلن ما توصلت إليه من تحقيقات.

سيناريو الكارثة:

لو حدث أن سارت الأمور على امتداد ما هو معروف الآن، فإن المحكمة - رغم كل النقد حولها - سوف تصدر قرار اتهام مسببا. في حال ما أشار الاتهام إلى «حزب الله» سارت الأمور باتجاه آخر قد يدخل لبنان وربما المحيط من حوله في أتون نار ملتهبة. حتى لو لم يقدم أحد إلى المحكمة للاقتصاص منه، فالواضح أن الأمور سوف تسير إلى كسر أحد مرتكزات حزب الله التي اعتمد عليها في حشد المناصرين من خارج الحلقة الضيقة وهي القول بالنضال ضد المحتل. الاتهام سوف يأخذ الحزب إلى دائرة أخرى تسمى دوليا «الإرهاب» وبينها وبين النضال والتحرير فرق كبير. تلك معضلة سياسية لحزب الله، وبداية عد تنازلي لشعبيته الكبيرة، واعتبار «الجبهة الداخلية» كجبهة «أمامية»، وبذلك يستنزف رصيده.

النضال ضد العدو من جانب آخر قد تعطل جزئيا - بعد نتائج حرب 2006، حيث صدرت قرارات دولية تحد من نشاط حزب الله قرب الحدود الدولية، وهناك قوة دولية تسهر على ذلك، واشتراطات دولية أيضا تحتوي على تفاصيل في القرار 1701. بمعنى أن الجبهة الأمامية في جنوب لبنان لم تعد متوفرة كما كانت في السابق.

الدور الإسرائيلي:

دون تيقن أو نفي عن الدور الإسرائيلي في عملية الاغتيالات التي تمت، يبدو أن الدور الإسرائيلي على «جبهة التسخين» فاعل. إسرائيل تستثمر الوضع اللبناني على أفضل وجه، فهي تقوم - إعلاميا - بإطلاق التصريحات، التي ربما هي مصممة لتأجيج الداخل اللبناني، تتلقف تلك التصريحات بعض الدوائر اللبنانية على أنها شواهد قطعية، وحتى بعض الدوائر العربية. وهي معضلة عربية بحق. فكل ما يصدر من إسرائيل من تحليلات أو تصريحات، إن كانت تساير ما يراه البعض، تعتبر حقائق لا يرقى إليها الشك. تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي في ما نبحثه شاهد على ذلك، فقد قال إن المحكمة الدولية سوف تشير إلى حزب الله في الاغتيال، اعتبرت أقواله حقيقة، وبني عليها، أنه مطلع على خفايا المحكمة؟ وهكذا تستفيد إسرائيل - بشكل ما - من خلال تكييف البعض لتصريحاتها، وتتحقق أهدافها، فهدم المعبد على كل المصلين بإشعال حرب أهلية في لبنان، هو أفضل ما يمكن أن يتحقق لإسرائيل، دون طلقة واحدة أو التضحية بجندي واحد.

السيد نصر الله في مؤتمره الصحافي مساء الاثنين 9 أغسطس اعتمد على ركيزتين في الإشارة إلى دور إسرائيلي، الأولى الإشارة إلى المتعاملين مع إسرائيل، وتبين من السرد أن معظمهم كان موجها عملهم (التجسسي) لأفراد وكوادر من حزب الله، كما أن كشفهم جاء من الدولة اللبنانية. والركيزة الثانية هي شرائط الاستطلاع الجوي، وهو أمر يبدو أنه قديم، قدم حادثة الأنصارية في عام 1997. وكما قال الأمين العام، قامت إسرائيل بعد ذلك بتشفير الصور الجوية، أي إن الموجود منها لدى الحزب في الغالب هي صور تنتمي إلى ما بين خمس إلى ست سنوات قبل اغتيال الرئيس الحريري. إن زبدة المؤتمر كما فهمها كثيرون قول الأمين العام بالنص إن ما عرضه لا يخرج عن (قرائن ومؤشرات وليست حقائق قطعية)، ما لمح إليه الأمين العام هو رغبة في سحب ملف الاغتيالات وإيداعه جهة لبنانية!! للتصرف فيه تمييعا! اتهام إسرائيل بقتل الحريري في أدبيات الممانعة قديم أيضا وموثق، فقد تبرع كثيرون للإشارة إلى ذلك منذ الشهر الأول!!

أما الحديث السياسي فلا خلاف حوله أن إسرائيل تريد فرقة اللبنانيين، فهي عدو شرس، وتحمل عداء مرا للمقاومة. إلا أن المؤكد أن الاهتزاز في صلابة الصف اللبناني يسهل لها ذلك، وعلى رأس الاهتزاز التهديد بالفتنة.

السيناريو الممكن حتى الآن، هو أن يتجه الجميع في لبنان إلى «الفتنة»، وما تحمله تلك الكلمة من معاني الهدم والخراب، وهي مفتوحة على كل التوقعات السلبية. حزب الله قادر - حسب القوة على الأرض - أن يَحكم لبنان إن أراد، ويتحول من «مُتحكم» الآن إلى «حاكم» بعد سلسلة إنفاذ الفتنة المهدد بها! إلا أن هذا الوضع سيجعله في المواجهة المباشرة مع فرقاء في الداخل اللبناني وقوى خارجية، كما لم يكن في السابق ومن جهة أخرى إيغال في دماء ومصالح اللبنانيين كما لم يحدث من قبل أيضا. والحال أن التهديد القائم حاليا المؤطر بـ «التحكم» سلبياته ليست أفضل من الوصول إلى «الحكم» والسيطرة، لأن كل تجمع هادر، وكل تصريح ناري محمول على شعارات التهديد الكبرى في الاجتماعات الجماهيرية للحزب وشعار «لبيك نصر الله»، يُخرج من لبنان قاصديه زرافات، والسياحة في لبنان تشكل ربع الدخل القومي، كما يخيف كل دولار استثماري، عطفا على تعطيل مؤسسات الدولة، التي تتعثر وإغراق جماعات أخرى في العوز والفاقة والخوف.

سيناريو الخروج من المأزق:

ليست هناك مخارج سهلة، حتى بعد تصريحات الأمين العام لحزب الله السيد نصر الله الأخيرة. التصعيد يعقد المشكلة العالقة ولا يقدم لها مخارج، بل يصبح جزءا من تضخيم المشكلة. قبول الإشارة إلى «العناصر غير المنضبطة» هذا إذا تم إصدار القرار الظني بذلك الاتجاه هو المخرج الأسلم، وقتها يمكن الدفع بكثير من الحجج من أجل تخليص الحزب من مغبة الآثار الأكثر سوءا للاتهام. أي عمل آخر استنفد حجته، سواء حصار العاصمة أو الدخول في أزمة وزراية ومماحكات تعود بالبلد إلى شفا الهاوية، الاثنان ستكون لهما ردة فعل إيجابية في تل أبيب، حيث لا أفضل من أن ينشغل الداخل اللبناني بداخله.