أسرى الماضي.. والرهانات المتبادلة

TT

خرج الأمين العام لحزب الله إلى الإعلام للمرة الثالثة أو الرابعة، لكي ينفي عن حزبه الاتهام المحتمل بتنفيذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005، وليحاول بدلا من ذلك تغيير المشهد بإيراد قرائن ومعطيات تفيد بأن إسرائيل يمكن أن تكون قد اغتالت الحريري، وليس حزب الله أو سورية. وينطلق الأمين العام للحزب من ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل ومؤداها أن هم إسرائيل الأول إنما هو استهداف المقاومة، فسورية، بشتى الأشكال والوسائل والأساليب. أما الاستهداف المباشر، فبالحرب والأعمال الأمنية شبه الحربية، وأما الاستهداف غير المباشر، فبإثارة الداخل اللبناني والعربي عليها، وذلك عن طريق اغتيال شخصيات وزعامات معادية أو مخاصمة لحزب لله وسورية، بحيث ينزعج الداخل وينقلب على الحزب وتثور فتنة طائفية أخرى أو مذهبية. وقرينته على هذه «الاستراتيجية» الإسرائيلية تصوير طائرات استطلاع العدو للطرق والمسالك التي كان يسلكها الرئيس رفيق الحريري، وبطرق تفيد بأنها مقدمة للقيام بعملية أمنية كبرى. ولدى الأمين العام للحزب صور مشابهة أنجزتها طائرات استطلاع العدو، تلتها علميات اغتيال لشخصيات من المقاومة.

لست هنا في معرض تقييم أهمية ما عرضه الأمين العام لحزب الله، خاصة أنه نفسه اعتبرها قرائن ومعطيات وليست أدلة جرمية. وعندما سئل من جانب الصحافيين بعد عرضه، قال إنه يشارك في حملة لكسب الرأي العام العربي والإسلامي لقضيته، وهي قضية الصراع مع إسرائيل. وهذا توظيف معقول، وإنما الأكثر معقولية وظهورا فهو التوظيفات الأخرى التي تتقصدها إيران والحزب (وسورية حتى الآن)، ومؤداها اعتبار «المحكمة» جزءا من الصراع بين هذه الأطراف من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية. فالمحكمة في نظر الأمين العام للحزب، وفي نظر علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وفي نظر الرئيس الإيراني، ورئيس مجلس الشورى بإيران؛ المحكمة في نظر هؤلاء جميعا أداة أميركية وصهيونية لتصوير حزب الله باعتباره تنظيما إرهابيا يغتال المدنيين اللبنانيين والعرب، ويخرج على أولويات العمل السياسي السلمي بالداخل الوطني، ويسلط سلاحه على اللبنانيين، وليس فقط على إسرائيل.

وإذا كان الأمر كذلك، وكانت إسرائيل تمارس المراقبة تمهيدا للاغتيال في صفوف «أنصارها» على الساحة اللبنانية (مثل سمير جعجع، حسبما يقول الحزب وأنصاره عنه كل يوم!) بقصد إثارة القلاقل بالداخل ضد الحزب ومقاومته؛ فإنه يصبح منطقيا المبادرة لتغيير المشهد أو محاولة ذلك، بل وكشف هذه «الاستراتيجية» الإسرائيلية الخبيثة لإثارة الفتن وحصار المقاومة. ولكننا نعرف أن الأمين العام للحزب تجاوز مسألة الفتنة منذ سنوات؛ بل أكد أنها صارت وراءه وما عاد يخشاها. فخلال الانقسام الداخلي في العامين 2006 و2007، قال الأمين العام للحزب مرارا إنه لن ينجر إلى الفتنة مهما حصل. وقال مرة: لو قتلوا منا ألفا فلن نقتل أحدا منهم. ثم على مشارف اجتياح بيروت في 5 مايو (أيار) 2008 قال السيد: إن الفتنة وراءنا، ودخل ألوف من حزبه والأحزاب الحليفة إلى بيروت بالسلاح، وسقط من جراء الإغارة نحو المائة قتيل في بيروت وأنحاء لبنان. وما خرج الحزب وأنصاره منذ ذلك الحين من مواقعهم في بيروت وسائر أنحاء لبنان، ولديهم اليوم «ميليشيات» سنية حليفة في سائر المناطق، ومنها بيروت. ولذا فالذي أراه، أن مخاوف الفتنة ما عاد لها اعتبار، ما دام التصدي لها بالقوة العادية قد صار ممكنا وممارسا، وما دامت الدولة اللبنانية العظيمة - بما في ذلك أجهزتها العسكرية - صارت تتفهم ذلك جيدا، فتستقيل من المسؤوليات أو تصير من أنصار ثالوث: الجيش والشعب والمقاومة.

إن توظيف المحكمة في الصراع مع إسرائيل هدف مقصود، وكذلك الهدف الإعلامي لكسب أو استثارة الرأي العام. ولكنني أحسب أن هناك توظيفات أخرى لها أولوية أيضا. فالحركة الرئيسية في المنطقة الآن تدور حول المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمطلب الأميركي بتحويلها لمفاوضات مباشرة، يتردد بشأنها الطرفان، ويريد كل منهما ضمانات مؤكدة وخطية بشأن شروطها ومدتها ونتائجها. وما انحسم الأمر بعد، لكن العرب بدأوا يميلون لتجربة ذلك لمدة محدودة، وبدلا من قطع التفاوض والاتجاه إلى مجلس الأمن الآن، فليكن التوجه إلى مجلس الأمن آخر العام. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الأميركيون تقدم المفاوضات باتجاه التسوية، يشتد الحصار على إيران، وتتراوح الأمور بين زيادة العقوبات أو الدخول في مفاوضات في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. ولذا فإن كلا الطرفين «يراهن» على إرغام الآخر أو إخضاعه لشروطه. وهكذا فمع ازدياد احتمالات التفاوض المباشر أو التقدم باتجاه التسوية، اضطرب الأمن بالمنطقة من جديد: ففي غزة عاد إطلاق الصواريخ، وتزايدت الغارات الإسرائيلية. وفي لبنان حدثت في الجنوب عدة أمور، وكادت الحرب تنشب قبل أيام. ويزداد العنف بالعراق ويتعذر تشكيل الحكومة. وفي اليمن عاد الحوثيون للظهور والانتشار. وفي أفغانستان تزداد الأمور اضطرابا على الرغم من الزيادة في أعداد جنود الأطلسي. وبذلك فإن كلا الطرفين لا يقصر في استخدام أوراقه. والفرق بين الولايات المتحدة وإيران، أن أميركا ما عادت بحاجة لاستخدام الوكلاء بعد أن حضرت بنفسها؛ في حين أعدت إيران عدة مساعدين غرب الفرات، ما بقي منهم واحد قادر على الحركة والفعالية الحقيقية غير حزب الله. ولذا فهم يحرصون على استخدام الحزب بحذر، وعند الضرورة وحسب. لكن ما حققه الحزب حتى الآن - ومن دون حرب، بل بالتخويف والإرعاب - لا يستهان به. فقد ارتهن لبنان مجددا بحجة المحكمة المنحازة أو الظالمة، ويستطيع التشدد أو التراخي بقدر ما تشعر به الجمهورية الإسلامية من رضا أو سخط على مفاوضات التسوية. أما إسرائيل فقد قالت عن الاشتباك بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي إنه حادث معزول؛ في حين ذكر الأمين العام للحزب أنه ضبط نفسه هذه المرة، لكنه في المرات المقبلة لن يغض الطرف، لأنه حامي الجيش الوطني - وهذه صيغة بديعة ما عرفها غير لبنان. وفي وضع كهذا ما عاد الحزب مضطرا للقيام باجتياح بالداخل من أجل التخويف أو الابتزاز؛ بل إن ما أعلنه من سيطرة في الأسابيع الماضية كاف ليفهم الجميع أن لبنان مرتهن لديه، إلى أن ترضى إيران ويرضى الحزب في اللعبة الشرق أوسطية وما هو أبعد وأوسع.

ويندفع نتنياهو باتجاه التفاوض تحت الضغوط الأميركية، وهو لا يريد التفاوض ولا إعطاء شيء. لكنه إن لم يفعل، فلن يحصل على ما يريد بالحرب أو بالسلم. ورهانه للخروج من الإحراج: ألا يجرؤ الفلسطينيون على الاستمرار في التفاوض، وأن يتقدم حزب الله وحماس وأشباههما لشن الحرب على المفاوضات؛ وفي الحالتين فإنه يستطيع القول إنه لا يجد شريكا في السلام، وإنه مضطر لشن الحرب دفاعا عن نفسه، وإزالة للعقبات من وجه المفاوضات!

وهكذا فحزب الله يرتهن لبنان، وحماس ترتهن غزة - وفي ظنهما أنهما رهينتان إسرائيليتان! - أما إسرائيل فترتهن الأرض والسلام. وكلا الطرفين - الراديكالي الإسلامي والإسرائيلي - هما أسير الماضي أو لعبة اللاحرب واللاسلم. ولا شك في أن الخروج من هذه اللعبة أو الحالة عامل تهديد غير معتاد لكل منهما لأنه يعني تحرير الرهائن، وبقاء الراهن في العراء. فالأمر كما قال الشاعر: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!