مات قبل أن يقول لي..

TT

فعلا الإنسان كائن مسوِّف بطبعه، لذلك تكثر كلمات الحكمة والنصائح التي تتحدث عن العزم والحزم وسرعة التنفيذ.. تكثر لأنها تلاحق باستمرار هذه الطبيعة الإنسانية الغامضة والمعقدة.

ليس الأمر كله كسلا، ربما كان هيبة أو ارتباكا في ترتيب جدول المهمات.

طافت بي هذه الخاطرة بعد رحيل المفكر الكويتي أحمد البغدادي قبل بضعة أيام. الراحل له بصمة واضحة في جدل الأفكار والهويات والأصوليات ليس في بلده الكويت، وحسب، بل على مستوى الخليج كله. أعرف الرجل من خلال اتصالات ولقاءات في مقاهي الكويت، ولقاءات أخرى في أبوظبي والبحرين، خلال بعض الندوات. وكان أن سعدت بالمشاركة في ندوة معه في البحرين، عن الحرية في الخليج، فكان رغم فارق السن والعلم والخبرة، خير محاور لي ومشجع، وكان في عزمي الخفي أن أرتب معه لقاء مطولا ليس للصحافة بالضرورة، بل حول تاريخ الفكر السياسي وصراع الأسئلة في الخليج العربي، وهي منطقة مجدبة في ثقافة الخليج، وليس أفضل من البغدادي، فالرجل مقاتل من الطراز الأول، خصوصا أنه كان متحدثا ممتعا ومتذكرا متقنا، وشجاعا غير هياب.

مضت الأيام والسنون، والفكرة تعود لي كل مرة، وأقرر أن ذلك سيكون في السفرة المقبلة، إما في الكويت أو غيرها، لكن فجأة تدهورت صحة الرجل، ثم رحل عن دنيانا، وفوق حزن الفراق له، كان حزن موت فكرة الحوار.

هذا الشعور لم أجربه فقط مع البغدادي، بل إنني تعرضت له أكثر من مرة، وقد جربته هذه الأيام أيضا مع عزيز كبير قريب.. كثير من الأشخاص، ليس فقط ممن هم من أهل الثقافة والفكر، بل حتى ممن يملكون تجارب في الحياة، أو شخصا يهمك أن يسرد لك سيرته وتفاصيله وذكرياته، يرحلون عنا من دون أن نستقطر عطرهم في قوارير الذاكرة.

المشكلة أنه في الموت لا يمكن تدارك شيء، وبموت الشخص تقفل صفحة ورواية كان من الممكن أن تضيف كثيرا أو تغير حتى في الرواية القائمة، أو تخلق رواية جديدة.

لو أن علامة الجزيرة حمد الجاسر توفي من دون أن يدون طرفا من ذكريات الثقافة والصحافة والعلم ولمحات من التاريخ المحلي في «سوانحه» القيمة، لكانت المكتبة السعودية فقدت نصا مهما في بناء وترميم الذاكرة المحلية، كذلك الأمر في الكويت لو لم يملِ السياسي الكويتي أحمد الخطيب مذكراته الخاصة. وليس المهم أن توجد في مثل هذه الكتب أخطاء أو اعتراضات من قبل البعض، فهي في النهاية رواية صاحبها الخاصة، المهم هو أن «تدون» هذه الرواية.

من أجل ذلك كله، من المهم المسارعة إلى الأحياء من مثقفينا وأهل التجارب السياسية والإعلامية منا من أجل حثهم على كتابة ما لديهم، أو قوله لمن يكتبه لهم.

إذا ما خلف الراحل عن دنيانا أثرا له فينا، كتابة أو فنا أو عملا، فإنه بذلك يهزم الموت نفسه، كما قال «الراحل» محمود درويش: «هزمتك يا موت الفنون»..

[email protected]