المؤامرة والعدالة في لبنان

TT

مع اقتراب ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والأحداث الإرهابية التي أصابت نيويورك وواشنطن، تنشط دور النشر في الغرب في إصدار الكتب وأقراص الـ«دي في دي» التي تقدم قراءات وتحليلات وأسبابا مختلفة لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، وتؤكد بحسب الروايات والأدلة التي تقدمها وجود «مؤامرة»، و«عملية من الداخل»، وغير ذلك من الأقاويل المثيرة، وهي بذلك تضم أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى «ملفات» المؤامرة الغنية مثل اغتيال الرئيس كيندي والحرب على العراق وغيرهما.

وعربيا، ومع تقديم حسن نصر الله زعيم الحزب اللبناني «حزب الله»، في خطاب تلفزيوني بث مؤخرا، مجموعة من «الأدلة والبراهين» يدين فيها إسرائيل بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فإن ذلك أيضا ينضم لمجموعة أحداث عربية مليئة وغنية بنظرية المؤامرة، مثل اغتيال أو انتحار المشير المصري عبد الحكيم عامر، وغزو العراق للكويت، وكذلك مقتل وزير الدفاع العراقي عدنان خير الله، ومقتل الملكة علياء بالأردن، ومقتل وزير الدفاع المصري أحمد بدوي، والزعيم السوداني الجنوبي جون قرنق، وهؤلاء الأخيرون جميعا لقوا حتفهم في حوادث غامضة دارت حولها الشبهات وعلامات الاستفهام والتعجب.

ويبدو أن ملف اغتيال رفيق الحريري سيلقى المصير نفسه، خصوصا في ظل الأصوات المتنامية المطالبة وبقوة بعقد صفقة سياسية لإخماد نار الفتنة، على أن يكون أهم عناصر الاتفاق المنتظر هو إلغاء الاتهام المتوقع بحق حزب الله مقابل سحب سلاحه، ويتنازل فعليا بذلك سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الحالي، عن دم والده في صفح وعفو تام، وهذا سيكون تحديا كبيرا ومسألة يختلط فيها الألم الشخصي مع الصالح العام بشكل مليء بالمشاعر المتناقضة.

مسألة الاتهام بحسب الكثير من المتابعين والمحللين أصبحت قوية بحق حزب الله، فهناك الكثير من الشواهد والأدلة التي ترجح وبقوة اتهام بعض عناصر الحزب «وحده» خصوصا في ظل الاغتيالات التي طالت أعضاء نافذين في الحزب كانت لهم علاقة وتواصل مع جهات خارجية أخرى، ولعل أهم هذه الشخصيات هو عماد مغنية الذي اغتيل في سيارة مفخخة بشكل غامض. ومنذ حادثة اغتيال رفيق الحريري ونظريات المؤامرة لم تتوقف.. تخف وتزيد وترتفع وتيرتها وتنخفض وتتراوح قصصها بين «الممكن والمستحيل»، وكل فريق يتلقط الأدلة والأقاويل ويبني عليها القصة الكبيرة الكاملة ما بين أنصاف النميمة وأرباع الأقاويل، فيخرج المستمع بقصة «خيالية» لكنها تتردد بالقدر الكافي لتصبح من الحجج والمراجع لتفسير ما حدث.

صناعة المؤامرة ونظرياتها هي نوع من الأعمال المغرية والمدرة للأرباح، فبقاء الناس دوما في خانة المستغفلين مسألة مريحة وتعزز مسألة الانقياد التام والخنوع المطلق، وكل دولة وحضارة وثقافة مسكونة برواياتها عن أحداث غامضة وشخصيات مريبة لا تفسير لها سوى «تأليف» استنتاج من الخيال بلا توثيق ولا تأكيد، لكنها تعتمد على ما هو مذهل وصادم بدلا من الاعتماد على الأدلة القطعية. حادثة اغتيال الحريري لا داعي لأن تدخل في دهاليز الغموض وسلالم المؤامرات، فهناك كم من الأدلة والشهود والبراهين التي تم الحصول عليها، وهي ترجح أطرافا لها مصالح في الخلاص من الرجل وقتها، مع عدم إنكار أبدا أن إسرائيل قادرة على القيام بعمليات قذرة كهذه وسجلها الأسود مليء بالجرائم المثيلة في أماكن مختلفة حول العالم وبحق الكثير من الأبرياء.

سيبقى التاريخ هو الحكم الحقيقي لحادثة اغتيال الحريري، فالقضاء اللبناني بقي عاجزا، وكذلك الأمن اللبناني، عن القيام بدور مستقل في هذه المسألة، مما حتم اللجوء لجهة دولية للبت في المسألة بشكل حاسم ومباشر. هناك محاولات قوية لدفع مسألة اغتيال الحريري باتجاه ملفات المؤامرة وإدراجها ضمن هذه الدائرة وللأبد، وهذا حل رومانسي وشعبي لمسألة معقدة ومهمة. والأيام القادمة كفيلة بحسم السجال ما بين المزايدين بالتنظير في مسألة اغتيال الحريري والمطالبين بتطبيق العدالة. وكل الخوف أن تقتل العدالة هي الأخرى لتنضم لرفيق الحريري.

[email protected]