الدكتور البغدادي.. عاشق الحرية

TT

رحل عنا المفكر الدكتور أحمد البغدادي تاركا وراءه إرثا أدبيا رائعا خالدا، رحل عنا بعد أن غرز أوتادا راسخة وثابتة من تجربته وعلمه وفكره التنويري ستكون معينا للأجيال القادمة ومرجعا مهما لا يمكن تجاهله في المستقبل إن حان أوانه.

يمكن اعتبار الدكتور البغدادي أول سجين رأي في كويت ما بعد الدستور، بعد أن دفع ثمن التعبير عن رأيه في لقاء نشر في صحيفة جامعية مغمورة، وبعد سنوات اكتشفت القائمة المنافسة للقائمة صاحبة هذه الصحيفة هذه المقالة، فأقاموا دعوى قضائية ضد الدكتور البغدادي، كان هدفهم الأول منها - وربما الوحيد - هو التشهير بالقائمة المنافسة، والنيل منها لإضعاف موقفها في الانتخابات الجامعية، فأصدر القضاء حكمه الشهير بسجن الدكتور البغدادي لمدة شهر، قضى نصفها، ثم صدر عفو أميري من الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد.

كنا - وما زلنا - نجتمع في أحد المقاهي، مجموعة رائعة من الشباب و«الشيوخ» المثقفين، كان المقهى بمثابة صالون ثقافي جميل، يتحدث فيه الجميع بحرية دون قيود، ولا يخلو المجلس من دعابات من هنا وهناك كان يقودها غالبا الدكتور البغدادي أحد شيوخنا في المقهى، فهو محب للفكاهة حين تكون في موضعها، وتجده في غاية الجدية حين يتطلب النقاش ذلك، فكان يجبرك على الاستماع إليه حين يتحدث، حتى وإن خالفته الرأي، وفي الوقت نفسه كان مستمعا جيدا، يصيخ السمع لمن يطرح رأيا مخالفا أو مؤيدا له.

هو صاحب مبدأ لا يحيد عنه مهما تكاثرت عليه السهام، واقعي جدا في آرائه وإن رآها المخالفون تطرفا، لم يهن أو يضعف أمام هجوم كتبة التيار المخالف له، ولم يتنازل عن مواقفه التي سطرها في مقالاته، بل زاده هجومهم عليه إصرارا وبحثا عما يسند رأيه وموقفه، فاحترمه خصومه قبل أصدقائه.

لا يمكن أن نغفل الحريات عند الحديث عن فكر الدكتور البغدادي، فهو عاشق متيم بالحريات، وهو مدافع صلب عن حرية التعبير، كتب مرارا محذرا من خطورة إقرار قانون المطبوعات الجديد، فأقر القانون وظهرت مساوئه بعد ذلك على بعض الكتاب وعلى حرية التعبير، فخرج المعارضون للقانون، وتصايح المطالبون بتعديل مواده، ولا ننسى ما حيينا موقفه الواضح والصريح في مجزرة الكتب التي تقام كل عام في معرض الكويت للكتاب، فهو لم يكتف بإعلان رفضه لتلك الرقابة من وراء مكتبه، بل خرج وقاد الاعتصامات التي ترفض الوصاية على الفكر وتحدد للناس ماذا يقرأون ولمن! وكان وجوده بين تلك الجموع محفزا ومشجعا لهم على الاستمرار في رفض تلك الوصاية.

والدكتور أحمد البغدادي مؤمن بأن فصل الدين عن الشأن العام هو الحل لفك أسر حرية التعبير، مع الأخذ في الاعتبار عدم نبذ رجل الدين من الحياة، بل تحديد دوره في الشأن الشخصي للراغب في طلب الفتوى، وتحصين هذا الفصل بنص دستوري واضح.

إن الحديث عن الدكتور أحمد البغدادي في مقالة واحدة فيه ظلم كبير لتاريخ وفكر ونضال علم من أعلام الفكر الحر في العالم العربي، لكنها شهادة متواضعة في حقه، ولقد حاولت قدر الإمكان التخفيف من استخدام مفردة «كان» في هذه المقالة، فالدكتور أحمد البغدادي، ورغم رحيله عن دنيانا، لن نذكره بـ«كان»، لأنه سيبقى دائما - كما هو باق الآن - بيننا بمقالاته وكتبه وبحوثه وعقول مريديه.

* كاتب ومسرحي كويتي