«ثقافة العنف المعولم» مسؤولية العالم الإسلامي أولا وأخيرا

TT

خدمت العولمة المترابطة والتناقضات السياسية الحادة ثقافة التشدد والتطرف والعنف، حتى أصبحت تلك الثقافة حقيقة مرة تعايشها الدول والشعوب داخل العالم الإسلامي وخارجه.

لم تفرق تلك الثقافة التي تكونت عناصر لحمتها - على مر قرابة ثلاثة عقود - من معتقدات ومنطلقات وشعارات «سلفية» مزيفة، ومن أطر وكتائب وهياكل تنظيمية «إخوانية» مؤدلجة، ومن أدوات وتقنيات وتكتيكات «غربية» متطورة، بين حضارة وحضارة، ولا بين دولة ودولة، ولا بين دين ودين، ولا بين طائفة وطائفة.

ثقافة «العنف المعولم» الذي تواجهه البشرية في العصر الراهن خلطة عجيبة معقدة، سخرت القيم الدينية النبيلة، وفكر الأنظمة الإدارية المعاصرة، والتكنولوجيا الحديثة، لخدمة التخلف، والتخريب والعدوان والقتل، وإشاعة الفوضى والخوف في العالم.

أعلنت تلك الثقافة الحرب، باسم الإسلام، على العالم، مما حير عقلاء الأمة الإسلامية وأحرجهم، وأيقظ القوى المعادية للإسلام، واستفزها، ومنحها الذرائع للتكتل والمصادمة، وحفزها على بناء الاستراتيجيات بعيدة المدى، للتعامل مع «الإسلام الزاحف» في الغرب بحذر، وربما بتعصب وعنصرية وعنف.

لم يخطئ العالم في التحرج والاستعداد للمواجهة، لأن مدارس تلك الثقافة وجامعاتها وقواعدها العسكرية وجيوشها وقنواتها الإعلامية ومستلزمات صمودها موجودة على امتداد بقاع العالم ودوله، مع توظيف شيطاني مبدع للظروف الاقتصادية السيئة وللإخفاقات السياسية المتتابعة في العالمين العربي والإسلامي، ومع استصحاب حي للتحالفات الغربية - الصهيونية المقيتة في دول الغرب عامة وفي أميركا خاصة.

أصبح الإسلام الذي يشكل معتنقوه، من مختلف الأجناس والأوطان والمذاهب، ربع سكان العالم، ولهم حضور في القارات كافة إن لم يكن في الدول كافة، «مشكلة عالمية متفاقمة».. يصعب التعامل معها لتشعبها، ويستحيل التخلي عنها.. لاعتبارات أمنية وقانونية، واقتصادية وسياسية، وإنسانية وحضارية.

يشير التقرير الذي أعده منتدى «بيو» الأميركي Pew Forum on Religion and Public إلى أن المنتدى توصل بعد دراسة جادة لمدة خمس سنوات، إلى أن واحدا من كل أربعة من سكان العالم مسلم، وأن تعداد المسلمين يصل إلى (1.57) مليار نسمة مما حجمه (6.8) مليار نسمة من سكان العالم. كما يشير التقرير نفسه إلى أن المسلمين الذين يعيشون خارج الشرق الأوسط أكثر من الذين يعيشون فيه، وأن نصف حجم تعداد المسلمين في أوروبا مواطنون أصليون، لا أقليات مسلمة.

المشكلة واضحة، فالعالم الإسلامي يمتلك الملايين من البشر، ويحظى بالامتداد الجغرافي، وتحتل دوله المواقع الجغرافية الاستراتيجية، وتنعم بالمنافذ البرية والبحرية الحساسة.. يتوج ذلك تاريخ مشرق وثروات حيوية هائلة. مع كل ذلك لم تتحقق لذلك العالم العظيم في عدده وعتاده الاستقلالية الاقتصادية، ولا النهضة الشاملة، واختطفت ثقافة التشدد والتطرف والعنف أعز شبابه، لتصبح المجتمعات المسلمة «محميات محصنة» لقنابل موقوتة ينتظر العالم انفجاراتها في نشرات الأخبار صباح مساء في مشهد محزن وكئيب.

لقد اقترن عنوان الإسلام «إجباريا» بلا فكاك بالإرهاب، مما أخضع المسلمين أينما كانوا للمراقبة والملاحقات، ومما استنزف ثروات الدول المسلمة لحماية شعوبها ومؤسساتها وإنجازاتها من «الإخوة الغازين» المتمردين، ومما كبد الأقليات المسلمة التي تراهن الأمة على تمدنها ونقلها للتكنولوجيا، وتمثيلها للإسلام الحق في المجتمعات غير المسلمة، الخسائر المعنوية الباهظة التي تكلفها الكثير من المعاناة للتمكن مما ترغب فيه من استقرار وفرص عمل، وللحفاظ على الثقة المتبادلة مع المجتمعات التي تعيش فيها في ظل المواطنة المتاحة، والسلم الأهلي السائد.

يتطلع الجميع في مشارق الأرض ومغاربها إلى «المخرج الآمن الدائم» من ذلك المأزق الثقافي الخطير الذي صنعه المسلمون زمن التيه والمكابرة لأنفسهم وللعالم! وهذا لا يعني منح صك براءة للقوى المتربصة بمعرفة ودهاء، وإنما يعني مواجهة الحقائق المرة بأكبر قدر من الشجاعة والمسؤولية. من مصلحة العالم الإسلامي أن يكون الأكثر اهتماما بتسريع الحلول وتصعيد الحرب على ثقافة العنف والإرهاب، ولو كانت مكلفة وموجعة، لأنه هو الخاسر الأكبر في إطالة عمر دوامة العنف والاستنزاف وخلط الأوراق.

الأزمة نشأت وترعرعت في داخل العالم الإسلامي. وشارك في صنعها وتغذيتها قيادات وتنظيمات ومؤسسات وجامعات دعوية وإسلامية. لذلك ربما تتمدد تلك الثقافة الهدامة، ويمضي تسلسل العنف والقتل والإرهاب لعقود إن لم تصطف الأمة الإسلامية بقضها وقضيضها: شعوبا وحكاما، علماء ومفتين، تربويين ومثقفين، إعلاميين وخطباء، دبلوماسيين وأطباء.. وسواهم، لمناهضة تلك الثقافة الهدامة، ولتفكيك منظوماتها وهدم قلاعها وتصفية شركاتها.

ومهما بذلت الدول الغربية من جهود مكلفة لمحاربة التشدد ومكافحة الإرهاب فإنها - ويمكن تسجيل ذلك من دون تردد - لن تنجح إلى أن تنجح المجتمعات والدول المسلمة في المحاربة والمكافحة. إن ما انتشر وينتشر في الشرق والغرب من أفكار ومعتقدات وتنظيمات لدى الأقليات المسلمة ليس إلا انعكاسا لما هو واقع ومبرمج في العالم الإسلامي.

نعم.. يمكن أن تستنير دول العالم التي تواجه تلك الثقافة وتلك التنظيمات التي تهدد السلم والأمن في كل مكان بالخطوات الناجحة المتميزة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية للاستفادة منها. هذا ما عزمت عليه حكومة ألمانيا الاتحادية التي قررت اعتبارا من 19 يوليو (تموز) 2010 نقل تجربة «مركز محمد بن نايف للرعاية والمناصحة» من الرياض إلى برلين، لإعادة تأهيل المتطرفين المسلمين، ولمساعدتهم على نبذ التطرف مقابل الحصول على وظيفة، وتوفير مسكن لكل منهم، مع الحفاظ على خصوصية الملتحقين بذلك البرنامج الذي أطلق عليه اسم «هاتف». إن تقديرات جهاز الاستخبارات الألماني الداخلي تشير إلى أن لدى ألمانيا قرابة (36) ألف مسلم متطرف، وأن تعداد المسلمين يصل إلى 4.3 مليون نسمة، مما يشكل نسبة ما بين 4.6 و5.2 في المائة من تعداد السكان في ألمانيا.

تنقل ألمانيا تلك «التجربة السعودية» الفريدة، وقبلها بريطانيا وأميركا، ونقل التجارب الناجحة في كل شأن من حضارة إلى حضارة ومن دولة إلى دولة ومن شعب إلى شعب أمر طبيعي، فليس للنجاح قبيلة ولا لون ولا دين، ونتمنى لألمانيا وللدول الأخرى النجاح في مكافحة تلك الثقافة، وفي تطويق تلك الجيوب الراديكالية التي تهدد الأجيال الحاضرة والقادمة.. مع ما يساور المتأمل من الحسرة على تلك الأعداد الهائلة (36) ألف متطرف في ألمانيا وحدها. إذن، كم تصل أعداد المتطرفين في فرنسا وفي بلجيكا وفي باكستان وفي أفغانستان، وفي اليمن وفي لبنان وفي إندونيسيا، وفي دول المغرب العربي وفي بلاد الشام، وفي دول وسط آسيا، وفي دول القرن الأفريقي؟! ثم كم عدد المراكز التي نحتاج إليها للرعاية والمناصحة والتأهيل، التي عادة لا يصل إليها إلا من أصبح مدمنا على «المخدرات الدينية» التي فرضت نفسها حتى أصبحت عابرة للقارات؟! ثم ما مدى النجاح الذي ستحققه تلك المراكز؟

أسئلة كثيرة وكثيرة تحمل في طياتها ألوان التعجب والأسى والحزن. والمؤكد أن العالم الإسلامي يعيش حالة انقلاب على ذاته بعد أن أوغل المفكرون والمفتون وصناع الرأي، وقادة الحركات الإسلامية الممتدة في العالم، في ترسيخ «عقيدة المؤامرة»، وتحميل الآخرين مسؤولية الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. لقد تحاشينا طرح الأسئلة الصعبة، واستسغنا اجترار الماضي، وعادينا عقلية البحث والمراجعة ومنح الفرص للتجديد والتجريب، ففقدنا القدرة على السيطرة على أزماتنا المتوالدة.

أتحنا الفرص بعد الفرص لثقافة العنف والتطرف، ولثقافة الوصاية والأحادية، فكانت الثمرات ما تعيشه الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها من صلف وعنف وإرهاب وانفجارات ومماحكات وملاحقات وحروب أهلية، ناهيكم عن الجهل والفقر وافتقاد الحريات وأسس مقومات الحياة الكريمة!.. المسؤولية تقع على كاهل العالم الإسلامي أولا وأخيرا، وما الثقافات والتحولات إلا من صنع البشر.

* كاتب سعودي وعضو سابق بمجلس الشورى