الأكاذيب العامة عندما تكون هي الحقيقة!

TT

كان صديقي، رحم الله الجميع، واحدا من أعمدة الصحافة المصرية وقطبا من أقطاب اليسار في مصر، وفي منتصف سبعينات القرن الماضي كان مسؤولا عن مكتب «روزاليوسف» في بغداد، الواقع أن عددا كبيرا من مثقفي اليسار في مصر، سافروا للعمل في بغداد بعد وفاة عبد الناصر بحثا عن دفء القومية العربية بعيدا عن برودة القاهرة بعد وفاة زعيم القومية، وتم تسكينهم جميعا في وظائف تناسب مكانتهم السابقة في مصر، غير أنهم جميعا لم يكن مسموحا لهم بالعمل، أذكر في ذلك الوقت مناقشات عديدة دارت في مقهى «ريش»، وهو أشهر مكان تجمع للمثقفين منذ بداية القرن الماضي حتى الآن، من هذه المناقشات أذكر جملة واحدة للشاعر أمل دنقل قالها لأحد المتحمسين القوميين: تريد أن تذهب إلى هناك لتستمتع بحرية التعبير؟ هل تعتقد أن باستطاعتك أو باستطاعة أحد انتقاد وكيل مصلحة البريد هناك؟

أعود إلى صديقي الذي كان مهتما بشكل خاص بقرية الخالصة، وهي قرية جديدة بالقرب من بغداد كانت ميدانا لتجربة قومية فريدة، وهي زرع شتلات ريفية مصرية فيها، بمعنى أنها خصصت للفلاحين المصريين ليس للعمل فيها بل لاستيطانها، وقيل الكثير عن هدف صدام حسين من هذا المشروع، ومنها أنه يريد أن يغلب العنصر السني على العنصر الشيعي في بغداد. وإذا كان الأمر كذلك فهو بالتأكيد لا يعرف شيئا عن الفلاح المصري وربما أيضا عن الشيعة والسنة. اهتمام صديقي بهذه القرية جعله يزورها بكثرة لرصد التغيرات فيها، وما هي الملامح التي بدأ يكتسبها الفلاح المصري، وما هي الملامح التي بدأت تتخلى عنه أو يتخلى عنها، وذات ليلة كانت هناك مناسبة مفرحة في القرية، أول حفل زواج بين عروس مصرية وفلاح عراقي، طلب صديقي الذي تأخر عن الزفة من أهل العروس أن يقابلها ليجري معها حوارا ينشره في مجلة «روزاليوسف»، فطلبوا منه الانتظار لدقائق تكون بعدها العروس قد أبدلت ملابسها، وجاءت العروس وبدأت ماكينة الكلمات الثورية القومية في الدوران: ما هو شعورك وأنت تتزوجين بعيدا عن مصر؟ وهل كنت تتصورين من قبل أنك ستتزوجين من عراقي؟ وما هو إحساسك بقرية الخالصة وهي وطنك الجديد؟

فأجابت: لست غريبة هنا، أنا مواطنة عربية تعيش في مكانها الطبيعي وهو قرية عربية في بلد عربي، وانتقالي من قريتي في مركز قويسنا بمحافظة المنوفية إلى قرية الخالصة في محافظة بغداد في العراق لا يشكل بالنسبة إلي أي عنصر من عناصر الغربة، أنا واحدة من الناس هنا، وكل الناس هنا هم أهلي.. وهذا هو بالضبط ما يجعلني أوجه الشكر للرئيس صدام حسين لأنه الزعيم الذي جسد بحق فكرة القومية العربية على الأرض. صدقني.. أنا فرحة مرتين، مرة لأنني تزوجت من عربي، ومرة لأنني ساهمت في جعل القومية العربية شيئا ملموسا يمهد لظهور الوحدة العربية.

كاد صديقي يصعق من بلاغة الفتاة وإيمانها بالقومية وبالوحدة العربية وكانت هي تتكلم في انطلاق منتشية بليلة الدخلة المرتقبة وبكونها أحد عناصر القومية الفاعلة. وبعد انتهاء الحديث شكرها صديقي وهنأها ثم لملم أوراقه وانصرف ليركب سيارته، وعند السيارة فوجئ بشخص يعرفه ومعه زوجته ينادي عليه ويطلب منه السماح لهما بالركوب معه إلى بغداد، رحب بهما وانطلقت السيارة بينما هو لا يزال مسحورا بحديث الفتاة، قال لهما: العروسة مثقفة جدا، لقد أجريت معها حوارا سينشر الأسبوع القادم.

سألته الزوجة بدهشة: هل تكلمت معها وتكلمت معك؟!

فأجاب: طبعا هل تعتقدين أنني أجريت معها حوارا بالمراسلة؟

فتنهدت السيدة وقالت: آه.. آه.. فهمت.. هذه خالتها محاسن.. العروس خرساء.. محاسن مثقفة وتقرأ الجرائد وتسمع الراديو وتشاهد التلفزيون.

لم يحدثني صديقي عما شعر به في تلك اللحظات، كما لم أسأله أنا ولا أعرف حتى الآن هل نشر حوار محاسن معه أو لا، غير أني من ذلك الوقت أفكر في هذه الواقعة محاولا أن أتبين الأسباب التي دفعت أهلها لهذا الكذب الإعلامي، لماذا لم يقولوا له ببساطة: لن تستطيع العروس أن تتكلم معك لأنها - بعيد عنك - خرساء؟! شفى الله الجميع.

هل هو الأدب والتهذيب والرغبة في مجاملة الرجل؟ الرجل مزنوق في موضوع، هو في حاجة إلى عدة كلمات محفوظة ومعروفة ولدينا من يحفظها عن ظهر قلب، لماذا لا نريحه ونشعره بأنه حقق مجدا صحافيا؟ أليس هذا هو عمله الذي يعتمد عليه في أكل عيشه؟ كيف لا نساعد إنسانا في أكل عيشه؟!

ولكن ذلك التحليل يرى الواقعة من فوق السطح، هناك في الأعماق ما هو أبعد بكثير، وهو يتعلق بالإعلام نفسه كمهنة، الإعلام لم يعد مهنة الإعلامي وحده، بل له فيها شريك هو المستهلك، وإذا كان الإعلامي - في مرحلة ما من مراحل التاريخ - يعمل من خلال منظومة أفكار تمده بها وتوفرها له سلطته السياسية، وهي غالبا ما تكون حزمة هائلة الحجم من الأكاذيب، فستلاحظ أن المستهلك أيضا لا يكتفي بتصديق هذه الأكاذيب، بل يساهم معه في صنعها، ليس لأنه شرير، بل لأنه على يقين من أن كلماته من المستحيل أن تمر من خلال هذه المنظومة بغير أن تنضبط وتنسجم معها، إنه ما يسمى اتفاقا ضمنيا Tacit agreement. في معظم ما أشاهده من برامج أرى المواطنين يقولون ما يريده المذيع والمذيعة بالضبط، والويل كل الويل لمن يخرج عن هذا الاتفاق الضمني، هكذا تكتسب الأكاذيب بشيوعها وانضباطها قوة الحقيقة، ينتج عن ذلك أن الوصول إلى مكان له أهمية في السياسة، يتوقف على قدرتك على أن تكذب بكل صدق، هنا يصبح ذكر الحقيقة شيئا مؤلما للمستهلك، وغالبا ما يفسر ذلك بأنك شخص شرير، حتى عندما تكون عاجزا عن الكلام، فلا بد أن تكون لك خالة أو خال يجيد طرح الأكاذيب العامة، لا تندهش عندما تفاجأ بخالتك مسؤولة عن محطة تلفزيونية فضائية، أو تعيين خالك رئيسا لتحرير جريدة شهيرة بينما هو لا يجيد القراءة والكتابة، هما بالتأكيد يجيدان شيئا آخر لا يخطر لك على بال. أما أخطر ما في هذه الحكاية فهو عندما تتغير الظروف بما يحتم طرح بعض الحقائق على الناس اتقاء لخطر وشيك، عندها يعجز الإعلامي عن القيام بواجبه، ليس لأنه عاجز عن قول الحقيقة، بل لأنه لا يصدق أن أحدا يريدها فعلا. لا تنس أن الصحاف وزير الإعلام العراقي أثناء غزو بغداد كان يهدد العدو الأميركي بالدمار في اللحظات نفسها التي كانت فيها الجيوش الأميركية تقترب من موقع لقائه بالإعلاميين!