والقبور الباكية

TT

استعرضت في مقالتي السابقة شيئا عن القبور الضاحكة، وهي قبور الغربيين. عندنا في الشرق القبور تبكي كما يبكي الأحياء. ينطبق هذا بصورة خاصة على المقابر العراقية، فهي تمثل خير تمثيل روح الاكتئاب والملانخوليا التي يتسم بها الضمير البابلي، هناك في مقبرة شيخ معروف في جانب الكرخ من مدينة بغداد شاهد قبر يستجدي دموع المشاهد، وكأن الدفين ما زال في حاجة إليها بعد كل الدموع الغزيرة التي ذرفها وشهدها في حياته. يقول الشاهد:

يا قارئا كتابي ابك على شبابي

بالأمس كنت حيا واليوم في التراب

وهذا كله شيء يسير ومعقول بالنسبة للوحة الشاهد التي تتجاهل القارئ، وتخاطب الديدان والبكتيريا فتقول:

يا دود! يا دود!

كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود.

صورة سريالية أصيلة تجاوزت كل نواح غلغامش في تلك الملحمة الشهيرة، يوم راح الملك البابلي يبكي على صديقه أنكيدو. لوحات القبور الفرعونية كلها عز وفرفشة وبنات حلوات. ولكن ليس شواهد القبور البابلية كهذه اللوحة التي عثروا عليها في الهند وتعود للألف الثالث قبل الميلاد:

«هنا يرقد آنور زركال. رجل من مدينة أوروك. هرب مما عاناه من ظلم. جاء حافي القدمين رث الثياب. مات غريبا في هذا المكان».

لا جديد تحت الشمس بالنسبة لمن يعيش في بلاد الرافدين.

قدر لي أن أشاهد قبرا في مقبرة باب المعظم من بغداد. فيما كان الميت قد آوى إلى قبره واستراح من هذه الحياة، انفجر أصحابه وذووه في معركة ضارية بشأن ما هو مكتوب على شاهد القبر: «هنا يرقد الدكتور فلان ابن فلان الحائز على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد، والليسانس من جامعة السوربون، والبكالوريوس من ريجنت بوليتكنك، بلندن.. إلخ». عجبت من أمره وأمر هذا الشاهد. أنا أفهم أن عالمنا العربي عالم من ورق، كل شيء فيه يتوقف على ما بيدك من أوراق وشهادات ودولارات، تتباهى بها عندما تكلم أصحابك في المقهى أو تخطب امرأة للزواج أو تسعى لوظيفة، ولكنني لم أتصور أنك تحتاجها عندما تموت وتكتبها على شاهد قبرك، سألت نفسي، يا ترى هل وضعوا هذه الشهادات معه في التابوت ليبرزها لملك الموت ويطالب بمراعاته بامتياز، ومعاملته معاملة خاصة؟ ربما تأملوا أن تنفعه في الآخرة في الحصول على مكان أفضل في الجنة.. أو النار.

في حين كنت أفكر بكل ذلك، انفجرت معركة بين الحاضرين كما قلت. «عيب عليكم! تقولون عنده دكتوراه من هارفارد! شهادته هذي كانت مزورة. يعني تريدون تكذبون حتى على الله سبحانه وتعالى».

رد عليه أخو الميت: «اسكت! هذا كلام البعثيين. يتهمون الناس بالتزوير لأنهم ما عندهم شهادات».

«لكن إحنا مو خونة مثل أخوك اللي اشتغل لـ(سي آي إيه) وأعطوه شهادة مزورة».

بهذه الكلمات فقد الجميع السيطرة على أعصابهم فهجم بعضهم على بعض، ودارت معركة ضارية تعالى في سمائها تراب القبور، فأخذت طريقي إلى الباب متسائلا، كم من صدق أو زور يا ترى في كل هذه الشواهد التي مررت بها؟