الفتوى وعربة الكشري

TT

في حالة الفوضى التي تسود العالم الإسلامي اليوم، لم تعد الفتوى لأهل الاختصاص، بل أصبحت هناك فتاوى لكل من هب ودب.. فتاوى جاهزة وسريعة و«مشطشطة» كأطباق الكشري في شوارع القاهرة الشعبية.. فتاوى تمكن منها متاجرون بالدين في الفضائيات وعلى النواصي وراحوا يطلقونها كيفما اتفق غير مبالين بعواقبها في أمور حياتية مهمة مثل الزواج والطلاق والميراث وغيرها من الشؤون التي تتصل بحياة العباد. حالة الفوضى هذه التي انحدرت إلى السوقية هي للأسف حالة عامة حتى تكاد تصبح الصبغة الأساسية التي يتميز بها زماننا. فالفوضى في كل ما حولنا، في نظمنا السياسية والاقتصادية وفي ثقافتنا، فعمراننا، مثلا، تجسيد مرئي للفوضى التي تجتاحنا ابتداء من الخلل في ضوابط البناء الذي جعل مدننا الحديثة كطبق السلطة، وانتهاء بالعشوائيات التي راحت تجتاح عواصمنا بلا معايير عمرانية ولا حتى إنسانية، من امبابة في القاهرة إلى السويدي في الرياض، مرورا ببستان الرز وحي الزهور في دمشق، إلى آخر هذه العوالم العشوائية التي ستفرز بطبيعة الحال عشوائية في نمط الحياة والتفكير والثقافة، ولا بد أن تصل هذه العشوائية إلى عماد ثقافتنا ألا وهو الدين.. ومن هنا لا عجب أن تسود عشوائيات الفتاوى «المشطشطة» كأطباق الكشري.

عشوائية الفتاوى يتحمل جزءا كبيرا منها أولو الأمر منا، وهنا أقصد رجال الحكم في بلداننا، لأنه تحت ادعاءات ومخاوف واهمة عن الدين والطائفية والفتنة ترى الكثير منهم يفضلون مسايرة الدهماء في هذا الشأن تحديدا بدلا من توعيتهم ومواجهة عشوائياتهم. طبعا نسبة كبيرة من مسايرة القادة وصمتهم تعود أصلا إلى خوفهم الدائم نتيجة نقص في شرعيتهم، فتراهم يفضلون في هذا الأمر تحديدا أن ينقادوا لا أن يقودوا. ومن هنا، كان لا بد للزعيم المسلم الذي يريد أن يتصدى للسوقة والدهماء من أصحاب الفتاوى السريعة الجاهزة ولا يبالي بغضبهم، أن يكون واثقا من شرعيته وشرعية حكمة، كي لا يخاف صغار العلماء من أصحاب «عربات الكشري» الذين يحملون «المطاوي» أو المديات في الحارات المظلمة، فيخيفون الحاكم قبل المحكوم. وفي هذا الإطار تحديدا أرى الأمر الملكي الذي أصدره العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، منذ أيام، بقصر الفتوى على أهل الفتوى من كبار العلماء المتخصصين، والذي انحاز إلى اقتصار الفتوى على كبار العلماء لا صغارهم، على الخاصة لا على العامة، أنه بذلك قد رفع من قيمة الفتوى، وحفظ للدين الحنيف احترامه وهيبته وقداسته. فالملك عبد الله بن عبد العزيز لا يهاب الغوغاء، لأنه يتمتع بشرعية جارفة في بلده وخارجه، وهو بلا شك قادر على إصدار مثل هذا الأمر من دون وجل أو تردد. فهو قد رفع الفتوى إلى حالة المسؤولية التي يجب أن تكون عليها، بدلا من الفتاوى اللامسؤولة التي كان يصدرها «شيوخ عربات الكشري»، وكانت تودي بالشباب إلى جهاد كاذب وتفجير للنفس وقتل للآخر، ومن المنطقي أن يكون هذا المستوى من الجدية في التعاطي مع مسألة دينية على غاية من الأهمية مثل الفتاوى مطبقا في بلد الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين جميعا. ولو كان جميع القادة الآخرين في العالم الإسلامي يطبقون النموذج ذاته، لكنا خطونا خطوة واسعة جدا في طريق إصلاح ديننا وشؤوننا، لكن للأسف، نتيجة لنقص شرعية الكثير منهم، سنجد أغلبهم يغازل المتطرفين في المساء ويتحدث عن أن لديه دولة قانون في الصباح. هذا الخوف هو الذي يجعل الكثيرين منهم يتجنبون مخالفة الدهماء من صغار العلماء وفتاوى «عربات الكشري».

الدولة ذاتها في بعض بلداننا لديها «عربة كشري» في الأزقة وفي المناطق العشوائية، ليست عربة فتوى فحسب، بل عربة وطنية وعربة للتكفير وأخرى للتخوين. الدولة ذاتها أصبحت مجرد «عربات كشري» يسيطر عليها الوزير الفلاني والعلاني.. وبعض الدول نجد في داخلها بقالات صغيرة للمتاجرة بالسياسة والوطنية وبالتخوين والتكفير وتعاطي الممنوعات المختلفة. إن لم تقلب الدولة من عالم البقالات الصغيرة إلى حالة السوبر ماركت، ويكون هناك «كاشير» وحيد في نهاية خط البيع، فلن تكون هناك دولة! ستكون هناك صفقات تعقد (على جنب) ولا يعلم عنها الحاكم شيئا، ذلك لأن الحاكم خائف من الشارع ومن أصحاب «عربات الكشري» ومن تجار القطاعي أصحاب البقالات داخل النظام. بالطبع هذا النوع من الحكام الذين لا يستندون إلى أرضية ثابتة لن يكون بمقدورهم أن يصدروا قرارا جريئا ضد تيار الغوغاء وأشباه العلماء ممن يبتزون الحكام باسم الدين.

نحتاج في العالم الإسلامي إلى قيادات مثل الملك عبد الله بن عبد العزيز.. قيادات تريد أن تقود وقادرة على أن تقود، وتقبل بتحمل التكلفة السياسية لهذه القيادة. ذات مرة، احتج أحدهم على الاختلاط المفترض بين الرجال والنساء في جامعة الملك عبد الله للتكنولوجيا.. احتج الرجل باسم الدين متخيلا أن رفع «عصا الدين» في وجه أي حاكم سيجعله يتراجع، لأنه متى ما قال بحرمة الاختلاط بهذه الجامعة أو غيرها فسوف ينضم إليه أشباه العلماء والدهماء ويتظاهرون ويتجمهرون، فيخاف الحاكم ويتراجع، هذا ربما كان النموذج، لكن عبد الله بن عبد العزيز لم يخف من هذا الصوت، بل أعفاه من منصبه، وانتهت الأزمة.. لم تحدث ثورة من الدهماء لأنهم يعرفون أنهم أمام رجل قرر أن يقود، قرر أن يحاسب المسيء ويكافئ المصيب. لذا إذا ما دققنا في هذا الأمر الملكي، سنجد أن ممارسة الفتوى من غير أهلها ستعرض صاحبها لطائلة القانون. تماما كما في الولايات المتحدة فإن من يفصل في القوانين المحكمة العليا (supreme court)، التي تفسر من دون غيرها القوانين الحاكمة لشؤون الحياة، وفي حالة الدول الإسلامية كالمملكة العربية السعودية، الشريعة هي القانون الحاكم، وتفسير الفقه والشريعة ليس لكل من هب ودب، وأحسن الملك صنعا عندما قال إن أي شخص أو جهة تتصدى لمثل هذا الدور غير هيئة كبار العلماء فإنها تتعرض للمساءلة القانونية وتبعاتها.

القيادة هي أن تكون لديك شرعيتك في الداخل والخارج التي تؤهلك لأن تقود لا أن تقاد، وأن تمشي مستقيما لا مواربا، وأن تكون واضحا كوضوح الشمس لا غائما ولا ممالئا لجماعات تخشى أنها قادرة على قلب النظام، هذه القلة الزاعقة من أصحاب فتاوى «عربات الكشري» لن تجد مكانا لها في بلد يسوده القانون، ولا تترعرع فيه العشوائيات كالطالب بين الصخور، لأنهم مخالفون للقانون. لكن، للأسف، في بعض الدول ناقصة الشرعية، تفتح فضائيات الدولة وفضاءاتها لأصحاب «عربات الكشري»، بل أحيانا يكون أصحاب «عربات الكشري» شركاء في الحكم.