اضرب انت يا زغلول

TT

يغيب السجن ويعود إلى الظهور في عفوية عجيبة. ولأن صلاح عيسى وضع «شخصيات لها العجب»، على مدى سنوات طويلة وفي مطبوعات مختلفة، فهو لم يبحث عن وحدة درامية متبعة لمؤلفه. ولعل في هدفه وضع مؤلف على غرار «رجال عرفتهم». ولم ينتبه إلى أن معظم أولئك الذين تعرف إليهم، وقعت المصادفة السعيدة في السجون وبين الزنازين. وفي داخل تلك السجون، وعلى شاشتها الكئيبة، سوف نجده (أو يجد نفسه) يوما إلى جانب فؤاد سراج الدين باشا، الأرستقراطي المعذب بسمنته والمتعثر بآدابه ولياقاته، ويوما إلى جانب شمس بدران، الطويل القامة، العسكري البنية، الذي كاد يصبح ذات يوم رئيسا وخلفا لعبد الناصر.

يوما نرى - أو يرى زميل السجن وزميلنا في الصحافة - الرجل سجانا ويوما سجينا. أدخل صلاح نصر إلى سجنه ورعبه كل مصر، من أجل جمهورية عبد الناصر، ولما قرر الرئيس إسقاط دولة المخابرات، وجد صلاح نصر نفسه بين أيدي الجلادين الذين دربهم على تعذيب الرجال وتحقيرهم وإذلال نفوسهم ودفعهم إلى اليأس والجنون.

لو كان صلاح عيسى روائيا لاكتشف أن أقصى حالات الدراما البشرية موضوعة بين يديه بتفاصيل لم تعرفها مخيلة دوستويفسكي. لكن المشكلة أننا أمام مقال صحافي عاجل، في حين أن المسألة المطروحة ملحمة من ملاحم القرن العشرين التي جرت في روسيا السوفياتية بعد روسيا القيصرية وفي صين ماو بعد صين الإمبراطور.

هنا، نرى الجلاد، وقد كره التعذيب وساوى خوفه، أو تجاوز، خوف ضحيته وتحطمها وانهيارها النفسي والصحي. اسمع ماذا يخبرنا عن الأيام التي كان خلالها جارا لشمس بدران: «ذات ليلة كان التحقيق يجري في الزنزانة المجاورة، مصحوبا كالعادة، بالتعذيب. تابعت، من ثقب صغير في باب الزنزانة، استدعاء أصدقاء لي إلى غرفة التحقيق. كان واحدهم يستدعى وهو عار تماما، وقد عصبوا عينيه حتى لا يعرف إلى أين يتجه، ويلهبون ظهره بعصي غليظة فيندفع جاريا أو يتعثر. وكنت أدهش لحرص كل واحد في حومة هذا العذاب على أن يغطي عورته بكفيه. وتتصاعد صرخاتهم من غرفة التحقيق فيزداد عذابي وإشفاقي عليهم وعلى نفسي. وحين يضيق المحقق أو يرغب في الراحة أو تأتيه إشارة سرية، كان يأمر بإخراج المتهم وتعذيبه في الساحة المواجهة لزنزانتي.. وكان المعذبون يحاولون إلقاء العبء على بعضهم البعض. وسمعت سيد خضير يقول: اضرب انت يا زغلول، أنا علي ذنوب كفاية».