صمت «إكونوميست» الذي لا يغفر حيال عداء سيد قطب للسامية

TT

حرصت دوما على مطالعة مجلة «إكونوميست»، حيث تروق لي الكثير من عناصرها، خاصة مراجعات الكتب لما يتمتع به أسلوب عرضها من قدرة على الإقناع وحيوية كبيرة، بجانب أن المجلة غالبا ما تعرض كتبا لا أجد مراجعات لها بأي إصدار آخر. من بين الأمثلة على ذلك سيرة ذاتية عرضتها «إكونوميست» لأحد أهم المفكرين المسلمين المعاصرين، سيد قطب. وقد حصل هذا الكتاب على مراجعة جيدة.

جدير بالذكر أن قطب أعدم عام 1966 من قبل النظام المصري برئاسة جمال عبد الناصر بعد تعرضه للتعذيب. ويعد الزعيم الفكري لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة وصاحب إنتاج أدبي غزير. من بين مؤلفاته كتاب بعنوان «معركتنا مع اليهود»، الذي يعتمل بقدر هائل من العداء الصارخ للسامية، الأمر الذي دفع «نيويورك ريفيو أوف بوكس» لوصف آراء قطب مؤخرا بأنها «على نفس درجة تطرف آراء هتلر». ورغم ذلك، التزمت «إكونوميست» صمتا مريبا لا يمكن غفرانه حيال ذلك.

ويثير موقف المجلة الحيرة والضيق، وخاصة أن قطب ليس واحدا من الشخصيات الهامشية، وإنما مثلما يشير عنوان فرعي للمراجعة التي تعرضها «إكونوميست»، يعد «أبو الأصولية الإسلامية»، ومن المستحيل قراءة أي كتابات حول هذا الرجل لا تشهد بأهميته المعاصرة الكبرى. كما أن عداء قطب للسامية لم يكن نتاجا لحماس الشباب المعهود واندفاعه، ثم تبرأ منها لاحقا مع تقدمه في العمر. وإنما وضع قطب هذا الكتاب في أواسط عمره ونشره في مطلع خمسينات القرن الماضي، مما يعني أن هذا الكتاب جرى تأليفه بعد وقوع المحارق النازية بحق اليهود (هولوكوست)، ووضعه مؤلفه رغم علمه الكامل بما ترتب على العداء للسامية. ومع ذلك، لم يهتز قطب بما تعرض له اليهود من مذابح جماعية في أوروبا، وبقي على موقفه.

إلا أنه على ما يبدو ينطبق القول ذاته على آخرين ممن يكتبون عنه. مثلا، في كتابها الأخير الذي أثار ردود فعل طيبة بعنوان «العرب»، أشارت إيوجين روغان من جامعة أكسفورد إلى قطب باعتباره «أحد أكثر الإصلاحيين الإسلاميين نفوذا في القرن العشرين»، لكنها لم تنوه بعدائه للسامية وكراهيته الشديدة للولايات المتحدة.

مثلما الحال مع الإرهابيين مرتكبي هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قضى قطب بعض الوقت في أميركا - تحديدا في غريلي بكولورادو وواشنطن العاصمة وبالو ألتو بكاليفورنيا - حيث تعلم كراهية الأميركيين. وأثار اشمئزازه بصورة خاصة الطابع الجنسي الصريح المميز للنساء الأميركيات. ولك أن تتخيل شعوره لو كان قد زار نيويورك.

وعليه، يتضح أن المراجعة التي وضعتها «إكونوميست» مثيرة للذهول في ما يخص المعلومات التي أغفلت ذكرها. هل من المعقول أنه بعد مرور 65 عاما فقط من خمود نيران أوشويتز، تراجعت أهمية العداء للسامية لتصبح قضية شخصية تافهة، مثل تفضيل الشقراوات - أي أمر لا يستحق الذكر؟

إن قطب يختلف عن ريتشارد واغنر، الذي على الرغم من عدائه الشديد للسامية، فإن ذلك لم يؤثر قط على موسيقاه. إن كراهية قطب لليهود لم تكن أمرا عارضا، فعلى الرغم من أنها لم تكن فكرة محورية في أعماله، فإنها أثبتت لنفسها أهمية كبيرة، نظرا لاعتناق جماعة مثل حماس لها بجانب أفكار أخرى. الملاحظ أن قطب يلقي اللوم على اليهود عن كل شيء تقريبا، مثل «المادية الإلحادية» و«الشهوانية الحيوانية» و«تدمير الأسرة»، وبالطبع شن حرب متواصلة ضد الإسلام.

من الواضح أن هذا الأمر ليس بالهين. اللافت أن منتقدي إسرائيل يتهمونها دوما بالعنصرية في تعاملها مع الفلسطينيين، وهو اتهام يكون صحيحا في بعض الأحيان، لكن وسائل الإعلام الإسرائيلية أو الثقافة الشعبية هناك لا تحمل أي أمر مشابه لما يجري قوله علانية وبمباركة رسمية داخل العالم العربي عن اليهود. وتحمل الرسالة العربية أصداء العنصرية النازية.

ورغم أن «إكونوميست» وروغان غير كافيين لتكوين ما يمكن وصفه بحركة، أجد من المتعذر علي التغلب على الشعور بأن هناك رغبة هائلة في تشويه صورة إسرائيل لدرجة تسمح بالتغاضي عن الإخفاقات الأخلاقية لأعدائها. ومثلما أوضح جاكوب ويزبرغ مؤخرا في «سليت»، فإن حركة «قاطعوا إسرائيل» تفتقر على نحو واضح إلى التوازن، حيث توجه الكثير من مشاعر الغضب تجاه إسرائيل، بينما لا تصب سوى القليل للغاية من هذا الغضب على دول أخرى مثل الصين وفنزويلا.

هل يمكن أن يكون الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش كان ذا بصيرة ثاقبة عندما قال منذ سنوات إن العداء للصهيونية «يمنحنا الإذن، بل والحق، بل والواجب في أن نكون معادين للسامية باسم الديمقراطية»؟ لقد أصاب الخط الفاصل بين العداء للصهيونية والعداء للسامية قدرا متزايدا من التشوش.

ونظرا لأن مراجعات الكتب التي تقدمها «إكونوميست» غير موقعة - والمجلة ذاتها لن تفصح عن اسم المراجع - يبقى من المستحيل معرفة من اقترف هذا الخطأ. لذا، تتحمل المجلة المسؤولية ليس عن سوء الذوق أو الجهل الذي يتعذر فهم مبرراته فحسب، وإنما لتجاهلها تعهدها المعلن في صدر صفحتها الأولى بـ«الدخول في منافسة بين الذكاء... والجهل الحقير الذي يعيق تقدمنا». لكن خلال هذا العرض، لم تخسر المجلة المنافسة فحسب، وإنما لم تشارك فيها من الأساس.

* خدمة «واشنطن بوست»