فاجعة!

TT

رحيل غازي بن عبد الرحمن القصيبي فاجعة للجميع قاطبة، للسعودية، للعروبة، وللإسلام. كلها في أمس الحاجة لرجل من طرازه في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها. البيداء أرض قاحلة ولكن بين حين وآخر تينع بين صخورها أزهار تخلب الناظرين كزهرة الأقحوان والنرجس. وفي هذا القفر البادي عليها، تلد هذا الحيوان الرشيق العجيب، الفرس، والريم. كذا تفعل بين سكانها. تمر الأيام والأعوام وأهلها يعيشون عيشا كالحا عقيما ثم يلمع فجأة بينهم فارس يمتطي فرسها وأحد هؤلاء الفرسان هو غازي القصيبي.

لقد سبقني الكثير من الزملاء وقالوا وعبروا عن مثل ما قلته ولم يتركوا لي ما أقوله. بيد أن السنين الطوال التي قضيتها في معرفة القصيبي في لندن لها حوبتها وحقوقها. وما يليق بي أن أكون بين الناكث والناكر والمهمل. ما الذي جمعني به وهو ذلك الوزير المرموق والسفير الأول وأنا ذلك الكاتب الصغير في هذه الصحيفة؟ جمعتنا نفس الروح التي جمعتني مع كل هذا الجمهور من قرائي والمعجبين بكتاباتي، ألا وهي روح الفكاهة والظرف. انضم إلينا في هذا الثلاثي المرح المرحوم يوسف الشيراوي، وزير التنمية البحريني. كثيرا ما اجتمعنا في جلسات سمر خاصة نتبادل حلو الكلام، نروي الطرائف والعجائب، نستعيد ذكريات هذه الأمة ونتبادل الرأي في مشاكلها. الشيراوي ينظر إلى الهند، والقصيبي ينظر إلى العروبة، وأنا أنظر إلى أوروبا. ما زلت أتذكره ضاحكا بعد أن قرأ ملاحظتي بأن اللقالق قد هجرت العراق ولم تعد تأتي إليه بعد أن ركبوا مكبرات الصوت على المنائر.

حب الفكاهة - كما ذكرت مرارا - من معالم النضوج والتمدن.

كثيرا ما أوحت لي تلك الجلسات وما أخذ ينشره من قصائد وروايات وأوصلتني إلى هذا الانطباع الذي صرحت به إليه. فالقصيبي عالم وأستاذ ودبلوماسي ووزير وشاعر وروائي. فأين هو القصيبي الحقيقي؟ ليٍس في أي منها. القصيبي الحقيقي هو الأديب الفنان. فنفسيته مصنوعة من هذا المعدن. قلت له يوما: يا ليتك تتفرغ لهذه الرسالة فأنت لست بحاجة لوظيفة أو منصب أو مال. ولكنه طبعا كان أذكى من أن يأخذ بمثل هذا الرأي فاستمر في أداء واجبه نحو وطنه وأمته.

وبالطبع، قلما مرت مناسبة دون حدث ما في فلسطين يجرنا إلى اجترار أفكارنا في الموضوع. وكانت له فكرته الواضحة كما سمعتها منه رحمه الله. قال: هذا نزاع سيستمر ولن ينتهي إلا بواحدة من نتيجتين. إما أن تزول الأمة العربية وتستولي إسرائيل على المنطقة، أو أن تزول إسرائيل ويستعيد العرب سيادتهم على فلسطين. جره هذا الموقف المتشدد إلى الاصطدام مع الأوساط الصهيونية في بريطانيا عندما كان سفيرا فيها. فانتقل من السلك الدبلوماسي إلى الإدارة. وتزامن ذلك مع الحملة الجارية على قدم وساق في تطوير المملكة وتنميتها. وهذه هي الفاجعة. أن نفقد هذا الفارس المقدام والدولة في خضم المعركة.