ما دام الحديث عن التجسس

TT

قصة شبكات التجسس الإسرائيلية في لبنان تعد واحدة من أكثر قصص التجسس إثارة في العالم لسببين، هما: المواقع المهمة للجواسيس، والانتشار الكبير. يضاف إلى ذلك الضربة المفاجئة بالكشف الاستثنائي بالجملة. وما سرب ونشر من معلومات أولية يشير إلى أن لبنان موضع تركيز استثنائي بحجم الجهد المخابراتي الموجه من قبل الموساد وغيره. ولا يفترض اعتبار مهمة جمع المعلومات محددة بإطار الاهتمامات في الشؤون اللبنانية فقط، بقدر ما تستغل للتحرك تجاه دول أخرى، بحكم التشابك في الحركة بين لبنان والكثير من الدول العربية، من باب السياحة وغيرها.

الشيء الواضح من المعلومات أن حزب الله لم يأخذ أولوية عالية في الاهتمامات الإسرائيلية، تتوافق والضجة الدعائية عن العداء بين الطرفين. وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على قيادة الحزب والدور الذي تقوم به. فمن يشكل خطرا يأخذ أولوية عالية في خطط المخابرات، التي لا تعير اهتماما للغوغاء السياسية والإعلامية.

ومن ذكريات نشاطات الموساد، ومراجعة حالات تجسس ضبطت في مناطق أخرى من المنطقة. فقد سجلت نشاطات انتقائية لهذا الجهاز في العراق مثلا، خلال مراحل سابقة. ومنذ الإعلان عن ضبط شبكات تجسس نهاية الستينات، تقلصت النشاطات الإسرائيلية كثيرا. حتى بداية الثمانينات في ذروة تصاعد وتيرة التوجهات النووية العراقية. ففي تلك المرحلة، كانت الأجهزة العراقية توجه معظم جهودها وقدراتها لمواكبة تطورات الحرب مع إيران، ولم تكن إسرائيل موضع اهتمام جدي. واعتمد العراقيون على ما تقدمه إليهم مخابرات عربية.

كان الموساد يركز في تلك المرحلة على متابعة ثلاثة عناصر أساسية متشابكة هي: مراقبة البرنامج النووي، وما يدور في مستويات القيادة العليا، ومراقبة وسائل الدفاع الجوي العراقية عموما، وفي غرب العراق تحديدا. وحقق بعض النجاح ومني بإخفاقات أخرى. ففي المجال النووي تمكن من متابعة البرامج النووية، معتمدا في مصادره بشكل أساسي على خبراء أجانب، لا بديل لهم من العراقيين، بسبب عدم تكامل القدرات العلمية الوطنية وقتئذ، وهي ثغرة غير موجودة حاليا في البرنامج النووي الإيراني، الذي يمتلك خبرات ترجع إلى منتصف السبعينات.

وفي مجال مراقبة مستويات القيادة العليا تمكن الموساد من تجنيد ضابط قريب إلى وزير الدفاع الفريق أول الركن عدنان خير الله، وزوده بأحدث وسائل الاتصال الإلكترونية، وخصصت له توقيتات محددة للاستماع إلى برامج إذاعية خاصة يتلقى عبرها التعليمات. بيد أن هذا الضابط أخبر الوزير بجزئيات ما حدث له أثناء سفره إلى دولة أوروبية. وتلقى الموساد معلومات عراقية مضللة. كما حاولوا تجنيد أحد الملحقين العسكريين العراقيين في الخارج وفشلوا. إلا أنهم أو غيرهم، نجحوا في اختراق مستويات بسيطة من الملحقيات. وظهرت خطط جمع المعلومات العراقية على صفحات المجلات، مما شكل صدمة قادت في المحصلة إلى معرفة الثغرات.

صعوبات النجاح في اختراقات بشرية مهمة دفعت الأجهزة الإسرائيلية إلى خيار التجسس على خطوط الاتصالات السلكية التابعة للدفاع الجوي. ونجحت لفترة معينة في تركيب أجهزة تجسس على خطوط غرب العراق وحصلت على معلومات مهمة في ترقب درجة الاستعداد وغيرها مما يدور في مكالمات غالبا ما تكون بلا قيود صارمة، بسبب الثقة بوسيلة الاتصال. فهل يعقل أن تكون اتصالات حزب الله أكثر حصانة من اتصالات دولة لها قدرات أمنية ومخابراتية كبيرة حتى لو كانت منشغلة في جبهة مصيرية؟

وفي مرحلة ما بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 نشر العراقيون هليكوبتراتهم في مناطق مدنية، فدأبت الإذاعة الإسرائيلية على إذاعة تعليقات ساخرة عن مواقعها التفصيلية كجزء من حرب نفسية. مع ذلك بقي العراق من أفضل الدول العربية أمنا. ولا جواسيس بالجملة.

نعود إلى الوضع اللبناني. فالصراعات الداخلية تؤدي إلى خلل خطير في فلسفة الأمن، لا يمكن للأجهزة المختصة معالجته جذريا، مهما تعددت وتقدمت فنيا. ومثل هذا الوضع يمكن أن ينتقل إلى العراق إذا لم يعبر محنه الراهنة، وإذا لم يمنع السياسيون من الاتصال بأجهزة المخابرات الدولية. فالانفلات السياسي وإباحة لقاءات المسؤولين بضباط مخابرات متعددة من دون أن يساءلوا، تحول العراق إلى بؤر مخابرات لا حصر لها. على الرغم من أن كل شيء مفتوح أمام الجميع بلا استثناء. فالمباح للمسؤول خارج حدود وظيفته تنتقل عدواه إلى الآخرين.