قرار ملكي حكيم

TT

في خبر مهم في شهر رمضان المبارك وكعادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، قدم مفاجأة سارة لشعبه بإصدار أمر ملكي مهم يتعلق بقصر إصدار الفتوى ضمن هيئة كبار العلماء. وقد جاء الأمر الملكي الموجه بقوة وبلغة شرعية وقانونية بليغة لمفتي البلاد ينص فيه على أهمية وضرورة حصر الفتوى في هيئة كبار العلماء للحد من فوضى الفتاوى وعبث الصراعات وتصفية الحسابات التي أحدثت ردود فعل سلبية.

ويجيء هذا القرار بمثابة إعادة الهيبة للإفتاء وضبط وسائل وطرق إصدار الفتاوى بعد أن امتلأت الساحات بالفتاوى الغريبة والمضحكة والهزلية والمتطرفة حتى تحولت الفتوى في بعض الأحيان إلى مصدر للنكات والسخرية. وحسنا فعل خادم الحرمين الشريفين بتوحيد قرار الإفتاء لهيئة كبار العلماء، لأنه بذلك سيكون بأيدي رجال فيهم التنوع المذهبي الكفيل، لو تم استخدامه بعدل وسوية، أن يزيل التشدد عن الفتوى ويضمن لها التوازن والسوية.

سنوات طويلة كانت الفتوى فيها أسيرة الرأي الواحد وأسيرة ضعف الاجتهاد وغياب التنوع المذهبي، ولذلك كان من السهل العبث بالفتاوى المضادة، لأن الأرضية كانت خصبة، فالتشدد يولد تشددا أكبر، ولذلك تأتي هذه الخطوة بمثابة عنصر إضافي إيجابي على طريق إصلاح الخطاب الديني المنشود، وهي الخطوات التي تسير عليها السعودية منذ سنوات. فهي اتجهت من قبل للحوار الوطني وجلساته لكشف وجهات النظر المتباينة، وقامت بخطوات هائلة لتنقية المساجد والمنابر من الفكر المتطرف الذي استشرى في البلاد، وعملت جاهدة على تنقية الكتب والشرائط التسجيلية من الغث المتشدد.وكان من المتوقع عاجلا أو آجلا أن تصل الأمور لمواجهة آلية إصدار الفتاوى وتقنين إصدارها بشكل مؤسسي وحكيم. فالكل لا يزال يتذكر هرج ومرج الإفتاء الذي عم البلاد في قضايا الجهاد والبنوك والسوق المالية وعمل المرأة وحجابها والتأمين والإعلام والتلفاز والسفر للخارج والتعليم الأجنبي ومعاملة المخالفين للدين والـ«بوكيمن» وهاتف الجوال بالكاميرا وغير ذلك.

أمام هيئة كبار العلماء مسؤولية عظيمة لإعادة الهيبة للفتوى ومنحها الجدارة المطلوبة، جدارة تليق بأهمية الإفتاء وأهمية التواصل الاجتهادي مع المذاهب المعتمدة والعمل بأسلوب فقه المقاصد وروح الشرع لا الاعتماد على النص فقط، لأن هذا هو عين التشدد والمسبب للكثير من العلل والقصور في تطبيق إمكانية تثبت صلاحية الفتوى والنص لكل زمان ومكان.

والأمر الملكي في تقنين وحصر إصدار الفتوى بالسعودية هو في حقيقة الأمر فرصة مهمة ولافتة للعلماء أن يلتفتوا للاجتهاد الجاد والعمل الحقيقي بدلا من الاهتمام بالتنافس المذموم لإثبات الأنا والذات وهو المجال الذي بات مكشوفا وبشدة، فأصبحت هناك نماذج كثيرة لطلاب العلم والشهرة في آن واحد وكانت دوما الرغبة في إثبات الوجود، بالشذوذ في الرأي لا الاجتهاد فيه. الانفتاح الكامل والعادل على المدارس الفقهية المعتبرة والأخذ منها سيمنع الشذوذ والتشدد بالتدريج، ولكن لن يقضي على الاختلاف، لأن الاختلاف سنة ربانية في الكون وهو رحمة من رب العالمين.

القرار الملكي خطوة مهمة ومتممة في طريق إصلاح الخطاب الديني بالسعودية، وهي مسألة يعلم الجميع أهميتها وحيويتها بعد أن ضاق الناس بالانغلاق والتشدد والتقوقع. نسأل الله أن يوفق بها الناس لأن يجنوا ثمارها الخيرة.

[email protected]