فرصة إسرائيل الأخيرة!

TT

كثير من الكتاب الإسرائيليين، والغربيين بشكل عام، قبلوا قول أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق: إن الفلسطينيين لم يتركوا فرصة للاقتراب من مطالبهم إلا وضيعوها؛ ولكن لم يحدث أبدا أن تم تطبيق نفس المنطق على إسرائيل وقادتها. وفي أوقات سابقة فعلت ذلك مع آخرين، ولكننا جميعا؛ من كتب عن هذا أو ذاك في فلسطين أو إسرائيل كنا نفعل ذلك بعد أن تنتهي الواقعة التاريخية ويصبح في التقييم ترف غير قليل. وربما آن الأوان لكي نفعل ذلك بينما الفرصة سانحة بالفعل، ولم أكن من فعل ذلك ولكن الصديق الدكتور خليل الشقاقي مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله حينما ألقى محاضرة على الدارسين في مدرسة جون كيندي بجامعة هارفارد حيث أمسك بالفرصة السانحة حاليا لإسرائيل، ولكنه - للأسف - رأى كيف ستضيعها ومن ثم فإن ما يبدو سلاما سيصير حربا.

كانت بداية الحديث أن الظروف من أجل السلام لم تكن مواتية مثلما هي مواتية اليوم، فمن بين قادة فلسطين الكبار خلال المائة عام الأخيرة - الحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات، ومحمود عباس - فإنه لم يوجد قدر الأخير من هو مؤمن بالحل السلمي، ومضاد للعنف المسلح، ومؤيد لحل الدولتين، ويفعل ويقول ذلك باستقامة كاملة ودون مراوغة أو التباس. وفي الوقت الراهن فإن النضال الفلسطيني من أجل الدولة يأخذ منحى آخر بخلق مؤسسات الدولة، والعمل من أجل التقدم الاقتصادي، وهناك احتكار لوسائل العنف المسلح من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، كما هو حادث الآن في الضفة الغربية ومن خلال الجهود الكبيرة التي يقوم بها سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني. وفي نفس الوقت فإن حماس، ومعها تيار الأصولية الفلسطيني، لم تكن أقل شعبية مما هو عليه الآن، كما أنها فشلت في احترام تعهداتها للشعب الفلسطيني، واخترقت واحدا من المقدسات الفلسطينية التي تمنع إراقة الدم الفلسطيني، بينما نجحت فتح ليس فقط في تحقيق الاستقرار والأمن والتقدم الاقتصادي في الضفة الغربية، وإنما أيضا عقدت مؤتمرها العام الذي أعاد توحيد صفوفها وكلمتها.

وإذا كانت هناك شكوى من قبل أن العالم العربي قد ترك القضية الفلسطينية لأهلها تملصا أو عجزا فإن الحال لم يعد كذلك، وهناك مبادرة عربية لحل الصراع إقليميا، كما أن هناك لجنة متابعة عربية، وحضر جمع عربي كامل لمؤتمر أنابوليس، وهناك شوق سوري كامل لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل. وعلى الجانب الآخر فربما لم تحصل إسرائيل على أمن مثلما حصلت عليه الآن، فهي لم تحصل على السكون نتيجة معاهدات السلام مع مصر والأردن فقط، أو اتفاق الفصل بين القوات مع سورية وحده، وإنما حصلت عليه من خلال اتفاقات وتفاهمات دولية مع كل من حماس وحزب الله والسلطة الوطنية الفلسطينية في غزة ولبنان والضفة الغربية. كذلك فإن غالبية الرأي العام الإسرائيلي توافق على حل الدولتين، وتستطيع الحكومة اليمينية الحالية أن تعتمد على تأييد كامل من المعارضة حال توصلها إلى اتفاق سلام.

هل توجد «فرصة» لإسرائيل أكثر من ذلك لكي تعيش وتتعايش مع أهل المنطقة أم أن الفرصة سوف تضيع كما ضاع غيرها وبأثمان فادحة؟ والكلام لا يزال للصديق الدكتور خليل الشقاقي. إن ضياع الفرصة هو الأمر المرجح، لأن الأحوال كما هي دائما قلقة وتنم عن عوامل متداخلة تجعل الفاصل دقيقا ما بين ظلمة الليل وضياء الفجر. فقوات الأمن الفلسطينية التي حققت النظام وفرضت القانون هي في نظر الغالبية من الفلسطينيين الآن قوة وطنية تعمل على بناء الدولة، ولكن هناك من يظن أنها من المتعاونين مع الاحتلال، ومع ضياع الفرصة السانحة فإن وجهة النظر الثانية سوف تغلب وتضيع واحدة من ضمانات صنع السلام والتسوية. وتظهر استطلاعات الرأي العام الفلسطيني نتائج ملتبسة ومنذرة في نفس الوقت بالنسبة للفرصة الحالية في النجاح؛ فبينما تفضل الأغلبية من الرأي العام حتى الآن مفاوضات السلام إلا أن الأغلبية في نفس الوقت لا تعتقد في نجاحها. والأغلبية حتى الآن لا تزال تعارض العنف، إلا أن المعارضة تقل مع الوقت، وتزداد معه القناعة لدى ثلثي الشعب الفلسطيني أنه الحل الوحيد المجدي. وهناك 70% من الفلسطينيين يؤيدون اللجوء إلى مجلس الأمن للحصول على قرار اعتراف بالدولة الفلسطينية؛ إلا أن 90% يعتقدون أن الولايات المتحدة سوف تستخدم حق الاعتراض (الفيتو) ضد هذا الاقتراح. وهناك من يؤيدون العصيان المدني والمعارضة السلمية، ولكنهم في نفس الوقت لا يعتقدون في جدواها.

الفرصة التي تضيع تتفاقم إمكانية ضياعها مع وجود عناصر أخرى لا يمكن تجاهلها، فمحمود عباس لن يكون موجودا إلى الأبد كما أنه ليس بالرجل الذي يقبل بحل ليس حلا وإنما ضياع للحقوق الفلسطينية، ولا يوجد ما يجبره على ذلك، كما أن المسألة كلها تتوقف على الزمن الذي يستطيع فيه سلام فياض الذي يقيم المؤسسات الفلسطينية على الأرض وليس في السماء أن يستمر حتى يبحث معارضوه في تنظيم فتح عن السبل التي تخلق له بدائل من داخل التنظيم.

بذور تدمير فرصة التسوية القائمة توجد داخلها، وأهم ما فيها أن نتنياهو يريد أن يكون قائدا لليمين الإسرائيلي المتشدد والمتعصب أكثر مما يريد أن يذكر في تاريخ أبطال السلام، وكل ما لديه هو أنه يريد محمية فلسطينية وليس دولة حقيقية، وهو عرض لا يمكن قبوله يمينا أو يسارا بين الفلسطينيين. ولكن منطق نتنياهو يحمل تناقضاته أيضا، فحجته أن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وغزة أدى إلى تعرضها لوابل من الصواريخ؛ ولكن عدم الانسحاب سوف يؤدي إلى نفس النتيجة خاصة مع القلق في الوضع الإقليمي واستمرار حالة الحرب مع سورية حتى ولو كانت الحدود هادئة، وارتفاع حدة التوتر مع إيران.

النتيجة المنطقية لكل ذلك هي أن الحرب هي الاحتمال المرجح حتى ولو كان الحديث عن المفاوضات المباشرة غالبا، وربما كانت غلبة الحديث محاولة للخروج من مأزق الحرب التي لن يكون هناك فقر في أسباب نشوبها، ولمن لا يصدق فعليه أن يتذكر حربي حزب الله وحماس الأخيرتين لكي يعرف كيف أن الحرب - مثل النار - يمكنها عندما تكون الظروف مواتية أن تنشب من مستصغر الشرر.

وإلى هنا انتهى حديث الدكتور شقاقي، الذي بدا لمن استمع إليه أن تحليله يقود إلى التسوية، ولكنه انتهى إلى أن الحرب ليست بعيدة عن الحساب بل إنها هي الاحتمال المرجح. ولكن ربما كان ذلك مطلوبا فمعظم تسويات المنطقة جاءت بعد فترة من العنف حينما لم تكن الأطراف في حاجة إلى رسالة قوية بأن أهدافها لا يمكن تحقيقها بالقوة المسلحة وإنما بعض منها الذي يمثل الحد الأدنى لمطالبها فقط، أما ما تبقى فإن التاريخ هو الذي يحسم الأمر في النهاية.