الأب يقبل يد الابن

TT

جاء الكاتب المصري صلاح عيسى من عائلة مصرية بسيطة مثل الأكثرية الساحقة من أبناء جيله. واسمحوا لي، على سبيل التصويب والاعتذار، أن أقول إن الجيل عند العرب أربعون عاما، بعدما كررت في هذه الزاوية النقل عن الغرب، بأنه ثلاثون عاما. وقد تنبهت إلى الخطأ عندما قرأت عند ابن خلدون تعريفه معنى الجيل، استنادا إلى القرآن الكريم: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً». أعتذر.

في أي حال، جاء صلاح عيسى من عائلة بسيطة مثل جل العرب، إلا بعض الكتاب الذين يحاولون إغراءنا دائما بأنهم مخلوقات نادرة جاءت على صحون طائرة، فيما كان المريخ يرمي على الأرض ذهبا. وثمة اعتذار آخر وتصويب آخر لم يتسن لي قبل اليوم ولا حضرت مناسبته. وهو أنني من قراء صلاح عيسى منذ سنوات طويلة، وإن كانت مصادفة اللقاء لم تقع بعد. وعفوا على الاستطراد ولنعد إليه. فقد كان والده، مثل آباء معظم العرب في ذلك الجيل، رجلا متواضعا ووقورا وليس له سوى حلم بسيط واحد: العائلة وسكينتها. وليتولَّ إصلاح خلل هذه الدنيا وظلمها وعتيها وحقارتها، أحد آخر.

وعندما لاحظ من بعيد، أن ابنه الجامعي يريد أن يغير العالم ويصحح دورة الأرض ويحرر الشعوب من الحاجة والجوع والطغاة، احتار كيف يوجه النصيحة إليه. واحتار. وازدادت حيرته. وذات يوم أمسك يد ابنه وقبلها وبكى. ولم يقل شيئا.

لكن الابن - والأبناء مجانين - لم يفهم معنى قبلة الأب على يد الابن. تظاهر وذهب إلى السجن. ثم تظاهر ثم ذهب إلى السجن. وترك في المنزل أبا قبل يده من أجل أن يعفيه من مثل هذه التجربة: أن ينام الأب في المنزل وابنه في زنزانته.

كم من الشبان ناموا سدى على بلاط السجون؛ ولم ينتصر إلا القهر والعبث والضياع. أجيال كثيرة طغت على آبائها بأنها لم تفهم أنهم يدركون عبث التعب في هذا الجزء من العالم. ففي اليوم التالي سوف تنزل الجماهير إلى الساحات للهتاف باسم الطغاة وبحياة الذين يقودونها إلى الموت والخراب والهزائم. وكان أصحاب الهزيمة يكلفون دائما صاحب المرادفات أن يعثر على تعبير مناسب، فيهمس: النكسة. وحده يملك براءة الاختراع.