الصف الأميركي والاصطفاف العربي ـ الإسرائيلي والصفقة المفتوحة

TT

في الولايات المتحدة صوت اميركي واحد: الحرب على الارهاب. وفي العالم العربي موقف رسمي واحد: المساعدة في الحرب على الارهاب. وفي اسرائيل قرار واحد: الاصطفاف وراء واشنطن واجراء صفقة معها.

الحرب على الارهاب باتت مشروعا عالميا وغربيا بامتياز، لكن المهم ان يبقى الغرب يميز بين الارهاب والاسلام، كما فعل الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

ومساعدة العرب للولايات المتحدة باتت قراراً عربياً شاملاً دونما حاجة الى قمة عربية أو مداولات عربية، على ان يصر العرب على التمييز بين المقاومة والارهاب، على غرار ما فعله الرئيس اللبناني اميل لحود.

أما الصفقة الاسرائيلية فترمي الى انهاء الانتفاضة الفلسطينية دونما حاجة الى تنفيذ خطط ارييل شارون العسكرية. والواقع ان الحكومة الاسرائيلية اجمعت على احترام أولويات الولايات المتحدة ووافقت على هدنة مع الفلسطينيين. وما كان مستبعدا حدوثه قبل العمليات الانتحارية التي استهدفت نيويورك وواشنطن، تحقق بعد أقل من أسبوع على هذه العمليات بفضل الدبلوماسية الاميركية.

لقد كان الفلسطينيون، ومعهم العرب، يتخوفون من ان يستغل ارييل شارون العمليات الانتحارية ضد الولايات المتحدة للمضي قدما في خططه لاجتياح مناطق السلطة الفلسطينية، لكن هذا لم يحدث، لأن واشنطن استدركت الأمر وقطعت عليه الطريق وهذه خطوة ايجابية نسجلها لواشنطن في سياق مشروعها الحربي ضد الارهاب.

والواقع ان منطقة الشرق الأوسط كانت تقف على فوهة بركان وتنذر بأوخم العواقب نتيجة الاستراتيجية الحربية التي وضعها ارييل شارون لتصفية حساباته مع الفلسطينيين وسوريا و«حزب الله». أما اليوم، وفي ظل التطورات الدراماتيكية في الولايات المتحدة، فقد نجحت واشنطن في تبريد الاجواء في المنطقة، وجمدت خطط ارييل شارون ولكن الى حين مقابل تجميد الانتفاضة الفلسطينية.

قد تكون الانتفاضة الفلسطينية أولى ضحايا العمليات الانتحارية ضد الولايات المتحدة لكنها بالتأكيد ليست الوحيدة. فثاني الضحايا قد تكون خطط ارييل شارون، لا بل ارييل شارون نفسه، واذا ضغطت واشنطن عليه من أجل احياء المفاوضات على المسار الفلسطيني، فإنه سرعان ما يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. ان سلوك طريق المفاوضات سوف يعطي ياسر عرفات متنفسا من الوقت ومتسعا من الحركة لتطويق ارييل شارون واحراجه أمام الشارع الاسرائيلي.

لكن الاسترسال في هذا المجال لن يفيد في الوقت الحاضر، لأنه من السابق لأوانه ترقب احتمال معاودة المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية بالشكل المطلوب في الأمد القريب. مع ذلك، تبقى للهدنة الفلسطينية ـ الاسرائيلية انعكاساتها وآثارها على مجمل الوضعين الاقليمي والدولي.

بالطبع المستفيد الأول من هذه الهدنة هو واشنطن. اما المتضرر الاول، فيصعب تحديده لأن المتضررين كثر وإن بنسب متفاوتة، ولكن من منظار الاستراتيجية الاميركية في منطقة الشرق الأوسط، فإن افغانستان تأتي في مقدم المتضررين ومن ثم العراق.

ومما لا شك فيه ان واشنطن، وبعد فرض الهدنة الفلسطينية ـ الاسرائيلية، سوف تستأنف تركيزها على معالجة مسألتين مزمنتين لا تزالان تثيران في رأسها الصداع، هما افغانستان والعراق. وإذا كانت ازمتها مع العراق تعود الى اوائل العقد الأخير من القرن الماضي، فإن أزمتها مع افغانستان هي الأخرى تعود بداياته تقريبا الى الفترة عينها.

أما الفارق بين الازمتين، فهو ان ادارة جورج بوش الابن ورثت ازمة العراق عن ادارة بوش الأب في حين انها ورثت ازمتها مع افغانستان عن ادارة بيل كلينتون. ولم تكن لتجد نفسها مضغوطة لمعالجة أي من المسألتين، لو لم تصبح هيبة الولايات المتحدة في الميزان، لا سيما انها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي باتت صاحبة النظام الدولي الاحادي في العالم.

ان تثبيت الهدنة الفلسطينية ـ الاسرائيلية يتيح الفرصة أمام الادارة الاميركية لاعادة تنظيم تحالفاتها العربية والغربية لتدفع في اتجاه معالجة هاتين المسألتين بالوسائل الديبلوماسية أو بالوسائل العسكرية، حتى ولو لم يثبت تورط النظام العراقي أو النظام الافغاني في العمليات الانتحارية في نيويورك وواشنطن.

وترمي الادارة الاميركية الى اثبات قدرتها امام الشعب الاميركي بقدر ما تريد استعادة هيبة الولايات المتحدة في العالم، وليس واضحا بعد ما اذا كانت تعد لضرب افغانستان والعراق في آن معا أم لضرب الواحد تلو الآخر.

أما انشغال الادارة الاميركية بهاتين المسألتين، وما قد يستغرقه من وقت، فسوف يسمح لسوريا ولبنان وحتى لايران ببناء خطة توظيف المتغيرات الاقليمية والدولية. لقد بنت سوريا استراتيجيتها الاقليمية في المدى المنظور على أساس استمرار الانتفاضة الفلسطينية وتوفير الدعم اللازم لها لحمل اسرائيل على الاعتراف بالحقوق العربية المشروعة، وشاركها لبنان «وحزب الله» في هذه الاستراتيجية. وعقب العمليات الانتحارية في نيويورك وواشنطن، تبدل كل شيء واصبحت المنطقة في مواجهة معطيات جديدة. وكما عرف الرئيس الراحل حافظ الأسد كيف يوظف حرب الخليج الثانية لصالح دمشق فإن الرئيس بشار الاسد مهيأ لتوظيف الحرب الاميركية على الارهاب لصالح سوريا ولبنان والفلسطينيين.

ففي ظل الهدنة الفلسطينية ـ الاسرائيلية والضغوط الاميركية على لبنان وسوريا لضبط حزب الله ومنعه من توتير الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية، وفي ضوء انشغال واشنطن بافغانستان والعراق، فإن العملية السلمية الشاملة في منطقة الشرق الأوسط تحتل اسفل سلم الأولويات الاميركية، مما يفسح لدمشق ولبنان في المجال للمطالبة بالعودة الى المفاوضات السلمية مقابل المساعدة على مكافحة الارهاب ، ووقف العمليات على الحدود مع اسرائيل.

الصفقة الاميركية ـ الاسرائيلية على حساب الفلسطينيين ممكنة. والصفقة الاميركية ـ العربية لحساب التسوية السلمية ممكنة، الصفقة الأولى بدأ تطبيقها في الشكل عبر الهدنة الاسرائيلية ـ الفلسطينية، اما الصفقة الاخرى فتفترض خطة عربية جريئة وحكيمة تقودها سوريا ولبنان وحتى ايران.

ما حدث ليس بالأمر البسيط والمبسط، وتداعياته لن تكون بسيطة ومبسطة. الحركة العسكرية ضد افغانستان وربما العراق، دخلت حيز التحضيرات العملية. اما الحركة السياسية من قبل سوريا ولبنان ويمكن ايران فما زالت في حيز التفكير، الاسابيع المقبلة حافلة بالمفاجآت والمتغيرات، منها ما هو محسوب ومنها ما هو خارج الحسبان.