من المستفيد: أمريكا أم الإسلام والمسلمون .. أم (...) ؟!

TT

حتى الآن لا يُعلم كل المجرمين الذين قاموا بالتفجيرات الارهابية المروعة في نيويورك وواشنطن، فلا يزال ملف المعلومات والتحقيقات مفتوحا.

وقبل الحصول على المعلومات والتعرف على الخيوط التي تقود الى الفاعلين الحقيقيين، وبعد استيفاء المعلومات وظهور الحقيقة ـ ونأمل ألا يطول زمن ظهورها ـ قبل ذلك وبعده، يجب ان يتبدى السؤال الكبير الفاصل، وأن يتبوأ أولوية عظمى. هذا السؤال هو:

ـ من المستفيد مما جرى؟

المستفيد ليس هو امريكا بالطبع، نقول ذلك بيقين على الرغم من الهوس السياسي الذي اطلق شائعة: أن الاستخبارات الأمريكية هي وراء التفجيرات الساحقة الماحقة. فكل ذي عقل سليم لا يتصور ان أجهزة أمريكية رسمية تقدم على فعل شنيع كهذا. فمهما كانت المكاسب المتوهمة في مقولة الهوس السياسي هذه، فإن الخسائر المتحققة موجعة. فهي خسائر معنوية لا تعوض قط. وكيف يعوض الجرح الغائر في الكرامة، والطعن الدامي في الهيبة، والصدع الحاد والواسع في الشخصية الأمريكية؟.. من جانب آخر، فإن ما حدث أدى إلى خسائر بشرية لا عوض لها، وإلى خسائر مادية ذات أرقام فلكية.

من المستفيد؟

هل هو: الاسلام والمسلمون؟

لا.. ترليون.. لا.. مليار ترليون.. لا.

فالإسلام والإرهاب نقيضان لا يجتمعان.

الإسلام دين الرحمة العالمية للناس اجمعين، بينما الارهاب: غلظة كله، وقسوة كله، ووحشية كله.

والاسلام دين العدالة، بينما الارهاب ظلم كله.

والإسلام دين النور، بينما الارهاب ظلام كله.

والإسلام عقل كله، بينما الارهاب سفه كله، وجنون كله.

والإسلام دين الخير كله، بينما الارهاب شر كله.

والاسلام أمن كله، بينما الارهاب رعب كله.

والإسلام سلام كله، بينما الارهاب عدوان كله.

والإسلام حق كله، بينما الارهاب باطل كله.

والاسلام يعصم الدم الانساني ـ من حيث هو إنساني ـ ويعد قتل نفس إنسانية واحدة ـ مطلق نفس إنسانية ـ قتلا للانسانية كلها: «من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً». بينما الارهاب يهدر الدم الانساني ويسفكه دون ان ينبض ضميره بنبضة واحدة من أسف أو تأثر. وهذا تعبير مجازي للمفارقة، وإلا فان الارهاب لا ضمير له، ومن شاهد الدمار في نيويورك وواشنطن، وشاهد الذين نزلت بهم الكارثة من القتلى والجرحى والمشوهين، وشاهد عائلاتهم التي لفها حزن مُقعد، وغم مقيم، من شاهد ذلك يتوكد ـ بيقين ـ أن الارهاب لا ضمير له، ولا قلب، ولا ذمة، ولا خلق.

والإسلام ينهى عن الفساد في الارض: «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها». بينما الارهاب هو عين الافساد في الأرض. ولذلك كان جزاء الارهابيين المفسدين في الأرض عظيما في شريعة الاسلام: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم».

والإسلام دين يقر الاختلاف البشري، والتنوع الإنساني في النظم والمناهج والشرائع: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» بينما الارهاب شيء مغلق، ضيق الافق، اعور لا ينظر الا بعين واحدة، كَليلةٍ ايضا، يضيق بالآخرين ولا يطيق التعايش معهم. والاسلام دين الوفاء بالعهود: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا»، بينما الارهاب غدر كله، وخسة كله.

والاسلام ليس هو (القوة القصوى للابادة). ان الرؤية السوية السديدة لا تتمنى ـ قط ـ هلاك الآخرين من أجل أن يخلو وجه الارض للمسلمين وحدهم. فهؤلاء الآخرون لا يُكرَهون في الدين، وهم قد يعمرون كوكبنا بما ينفع البشرية ويخدم الاسلام ذاته من تيسيرات ووسائل. والحقيقة الكبرى ـ ها هنا ـ هي: ان بقاء البشر والحضارات هو موضوع الإسلام ـ خطابا وهداية واقرارا وانكارا وتعارفا وتعاملا ـ فإلى أي شيء يتوجه الاسلام بخطابه إذا فني البشر، ودمرت حضاراتهم بهذه الوسيلة او تلك.. ومعنا على هذه الحقيقة برهان وهدى. قال رسول الاسلام صلى الله عليه وآله وسلم: «فناداني مَلكَ الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن اطبق عليهم الأخشبين (جبلان في مكة) فقال النبي: بل أرجو ان يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».

على الرغم مما لقي النبي من قومه ـ بادئ ذي بدء ـ من تجهم وايذاء مختلف الصور، لم ينتهز الفرصة السانحة ويرغب في ابادتهم. ومن هنا، فان منهج الاسلام لا يقر ابادة البشر ولا يتمناها. فلا الاخشبان، ولا الدمار بحرب نووية أو جرثومية، أو بتفجيرات إرهابية.

الإسلام ليس هو القوة القصوى للابادة، بينما الارهاب له حرفة واحدة مفضلة وهي: ممارسة الإبادة بدرجتها القصوى.

والإسلام رفق كله. ففي الحديث النبوي: «إن الله رفيق يحب الرفق في الامر كله»، بينما الارهاب عنف كله.

والاسلام يرخص في دفع العدوان ـ حماية للنفس والدين وسائر مقومات الحياة ـ ولكنه يرفض الفجور في الرد، وتجاوز الحدود المشروعة في الدفاع: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين». بينما الارهاب عدوان كله، فجور كله، غير مشروع قط، لا في باعثه، ولا في وسيلته، ولا في هدفه.

إذن، فالاسلام مضار ومؤذىً مما حدث، وليس مستفيدا بأي مقياس من المقاييس، وبأي صورة من الصور. فمن المستفيد؟

هل المستفيد هم المسلمون؟

لا، ترليون لا، مليار ترليون لا..

فالمسلمون هم الخاسرون مما حدث. فقد استُغلت تفجيرات نيويورك وواشنطن في تشويه صورة المسلمين على اوسع نطاق. واقترن بالتشويه: الايذاء المعنوي والمادي في حياتهم الخاصة والعامة. من المستفيد؟

المستفيد هم الذين صكوا شعار ان (الاسلام هو العدو) المشترك الذي يجب ان توجه إليه السهام الفكرية والاعلامية والسياسية بعد زوال الاتحاد السوفيتي.

المستفيد هم الذين تعاونوا مع آخرين على صك شعار (صراع الحضارات)، وان الاولوية في هذا الصراع العالمي بين الحضارتين: الاسلامية والمسيحية. المستفيد هم الذين يريدونها فوضى عالمية يحققون من خلالها اهدافهم الكبرى التي يصعب تحقيقها في مناخات الهدوء والسلم والاستقرار. ولقد احترفوا هذه الحرفة في التاريخ المعاصر.

المستفيد هم الذين تخصصوا في تشويه الاسلام والمسلمين تشويها منهجيا ومتنوعا ومبرمجا ومستمرا. ولقد توسلوا الى هذا الهدف بألوف الكتب والمقالات ومئات المسلسلات والافلام التي تقدم الاسلام بانه دين عدواني، وتقدم الامة العربية الاسلامية بانها امة من الهمج المتوحشين.. ومن هذه الافلام ـ مثلا ـ : فيلم انتجه هؤلاء، قوامه (نبوءة) ستقع في المستقبل «!!».. ما هذه النبوءة؟.. خلاصتها: ان المسلمين سيحصلون على السلاح النووي وسيمتلكون صواريخ عابرة للقارات بتعاون مع الاتحاد السوفييتي (كان الاتحاد السوفييتي موجودا يومئذ) وهو تعاون رمز اليه الفيلم بأن طبع على الصاروخ النووي: شعارا مؤلفا من الهلال ومن المطرقة والمنجل.. ويصور الفيلم ان المسلمين قد استخدموا السلاح النووي ضد مدن ومراكز حيوية في الغرب، ولا سيما نيويورك التي دمرتها الصواريخ تدميرا ماحقا، في أجواء امتلأت بالخراب، وجثث القتلى، والرعب، وبكاء النساء، والاطفال، وكل احد.. ولم تُستأنف الحياة، وتنبت الورود من جديد، إلا بعد ان أمسى المسلمون في باطن الارض بمقتضى تعاون غربي نووي جماعي سحقهم سحقاً.

المستفيد هم الذين يكدحون ويصلون ليلهم بنهارهم من اجل (تعميق الكراهية) بين العالم الاسلامي والولايات المتحدة الامريكية: بالمعلومة المغلوطة، والرأي المضلل، وحملات التخويف من المسلمين.

المستفيد هم الذين يخططون لوضع جاليات العرب والمسلمين في اوربا والولايات المتحدة موضع الشك والاتهام حتى يُعَطَل نموها، وتُشل حركتها، وتتضاعف المخاوف المختلفة من وجودها.. والهدف الاعلى: ان يخلو الزمان والمكان لهؤلاء المستفيدين وحدهم دون سواهم.

المستفيد هم الذين يريدون صرف الانظار عن ارهابهم الفلسفي والعملي باغراق المسلمين اجمعين بتهم الارهاب، وتركيز ابصار البشرية على هؤلاء المسلمين الارهابيين!! المستفيد هم الذين ارادوا توظيف وسائل اعلام غربية، او كثير منها، في خدمة (اجندتهم الخاصة): اجندة ان العربي والمسلم متهم حتى تثبت براءته.

هؤلاء هم المستفيدون من دون العالمين.

ان الوضع العالمي جد خطر، وجد مشحون بما يجعل حياة البشرية كلها جحيما ـ نفسيا وأمنيا وسياسيا وعسكريا وفكريا واعلاميا ـ لا يحتمل ولا يطاق.

ولا راد لهذه الكارثة المرعبة إلا ان يتنادى عقلاء البشرية ويتواصوا بهذا:

1 ـ التضامن على مكافحة الارهاب وفق مفهوم واضح مضبوط يفصل بين الارهاب والاسلام وكل دين ، ويفصل بين الارهابيين وبين تعميمه على المسلمين، وعلى كل امة اخرى من حيث هي أمة.

2 ـ التعاون النشيط الوثيق على خفض التوتر الديني في العالم: خفضه على الاقل. فمن الحقائق الموضوعية: الاعتراف بان العالم يشهد (صحوات دينية): اسلامية، ويهودية، وبروتستانتية، وكاثوليكية، وأرثوذوكسية، وبوذية.. الخ. والخيارات محدودة تجاه التوتر الديني الراهن: الغاء الصحوات، وهذا مستحيل، او ترك التوتر يتصاعد، وهذا خيار قاصم بل مهلك، والخيار الثالث هو: التصميم على خفض التوتر الديني باخلاص وعقل ومسؤولية.

ومن تدابير هذا الخفض: نظافة الخطاب الاعلامي والسياسي من كل عبارة ترفع معدل التوتر الديني في العالم. ويتطلب ذلك: ضبط اللسان بحزم حتى لا ينطق بكلمات مهيجة للشعور الديني في هذه الأمة أو تلك. وليس يجدي الاعتذار بعد ان تنطلق الكلمة من الفم. فهي كالرصاصة إذا انطلقت لن تعود. والحرب أولها كلام.