السكرة والفكرة

TT

يرتبط السُكْر دوما بذهاب العقل والجنون، فقد ورد في الذكر الحكيم في وصف البشر يوم القيامة: «تراهم سكارى وما هم بسكارى» كناية عن ذهاب العقل من هول الحدث، وفي القول الشعبي «راحت السكرة وجاءت الفكرة»، أي ذهب اللاتفكير واللامبالاة وحان وقت الجد، وقيل ان امرؤ القيس قال قولا حين ورده نبأ مقتل أبيه وهو في جلسة من جلسات الراح أن: «اليوم خمر وغدا أمر»، وقيل انه قال: «اليوم خمر ونساء، وغدا نفعل ما نشاء»، وذهبت تلك الجملتان أقوالا يرددها الركبان وكافة «العربان» حتى اليوم.

السكر يصادر العقل، ويؤدي بالإنسان إلى أن يحكم على الأشياء أحكاما خاطئة، ولكن غياب العقل أيضا كان أحد الصفات التي تستخدم في الماضي كناية عن الشجاعة وعدم الخوف، لأن من يذهب عقله لا يميز الخطر، ولا يعرف ـ حتما ـ طريق السلامة، ولذلك كانت بعض القبائل العربية تسمي الشجاع من فرسانها بالسكران كنوع من الحرب النفسية ضد أعدائه كي يخشوه ويتجنبوه، فهو ليس في وضع عقلي يجعل التفاهم معه ممكنا، أي أن من لا يمكن التفاهم معه عند العرب يعد شجاعا في ساحات الوغى ومسارح القتال، فسمت بعض القبائل العربية بعض أبنائها «عجمي»، وذلك ليس نسبة ِلعُجمة في لسانه أو لغتة، ولا هو دليل على أصوله الفارسية، ولكن للإشارة على أن التفاهم معه مستحيل، وبالتالي فخير لأعدائه أن يتجنبوه ويتحاشوه، وهناك أسر عربية بدوية كريمة في دول الخليج يقال لهم السكارى كناية عن شجاعتهم، وتلافي مجابهتهم لأنهم في وقت القتال مثل السكارى لا يميزون ويحدثون فوضى وضررا كبيرين.

ولكن أحد معاني السكر أيضا هو أنه آخر لحظات الحياة قبل الانتقال للدار الآخرة، فيقال بأن فلانا يعاني «سكرات الموت»، أي الغيبوبة التي تسبق خروج الروح الى بارئها.

كما يرتبط السكر حتى الثمالة بالترنح وعدم ضبط النفس، وقد تستعمل كلمة «الترنح» بدورها لتصف من فقد توازنه نتيجة تلقيه ضربة قوية تفقده صوابه وتخلخل توازن المخيخ لديه. وهذه هي الحالة التي تعيشها الولايات المتحدة المنكوبة إثر الجريمة الإرهابية التي ارتكبت بحقها وضد آلاف من الأبرياء يوم الحادي عشر من سبتمبر، ولا أحد منصفا يمكنه أن يلوم أمريكا إذا ما شعرت بالمرارة والألم نتيجة تلك الجريمة الشنعاء، كما أن لها كل الحق في مطاردة وملاحقة من ارتكبوا ذلك العمل ضدها، والقصاص منهم، ولكن الخوف كل الخوف هو من استمرار حالة السكر والترنح التي تعيشها أمريكا بكل قوتها وجبروتها، فترسانة الأسلحة الأمريكية ليست سيفا بتارا قد يقتل نفرا ويجرح آخرين، ولكن لديها أسلحة مدمرة إذا ما استخدمتها في حربها ضد الإرهاب وهي تعيش حالة السكر التي تعيشها هذه الأيام فإنها ستهلك ـ حتما ـ أبرياء كثراً، وتكون بذلك مارست عملا لا يقل شناعة عن إرهاب نيويورك قبل أيام.

إن موجة من السكر تجتاح الولايات المتحدة هذه الأيام، وتعبر عن نفسها بموجة «سكرانة» من الاعتداءات ضد العرب والمسلمين. ورغم ما قام به الرئيس الأمريكي ـ مشكورا ـ من جهد، للنأي بالإسلام والمسلمين من الإرهاب، إلا أن المطلوب من مسؤولي الولايات المتحدة أكثر من ذلك بكثير.

إن الولايات المتحدة مطالبة بأن تفوق من سكرتها، كي تأخذ بثأرها بالشكل الصحيح والسليم الذي يمكن أن يجنبها والعالم مزيدا من سفك دماء الأبرياء.