عجلة الحضارة.. نحن صنعناها

TT

عبّرت مديرة المدرسة، التي كانت تأخذ فيها ابنتي دروسا في اللغة الانجليزية بلندن، يوم حفل التوديع، عن سرورها بمعرفتي، وانني على حد قولها امرأة مميزة بما املكه من حضور طاغ، وثقافة متشعبة، وسعة افق، متابعة بان كافة معلمات ابنتي يشاركنها هذا الرأي، وذلك من خلال احتكاكي بهن طوال الاشهر الماضية، اثناء زيارتي المتكررة للمدرسة للسؤال عن ابنتي. بلا شك ان نيل محبة الناس، والاستحواذ على مشاعرهم، ونزع الاعجاب من دواخلهم، لا تضاهيها جوانب اخرى في حياة الانسان، لكن الحقيقة ان هذه الشهادة بقدر ما اسرتني، بقدر ما احزنتني، لان معناها المبطن يوحي بانني حالة نادرة في مجتمعي، وهو ما ارفضه بشدة، لقناعتي الشخصية ان هناك الكثيرات من يفقنني ثقافة وحضورا، متسائلة بيني وبين نفسي، هل هذا الانطباع الجميل، يعود الى نظرة الغرب لنا، التي تتخللها الكثير من الشوائب، نتيجة ما يدور على الارض العربية من مآس ومجازر تقشعر لها الابدان؟! هل هذا يرجع الى التصرفات المشينة التي يمارسها البعض، وتلتصق بالشخصية العربية كقاعدة عامة في الحكم على سلوك الجميع؟! هل القضية في الاساس تنحصر في ان الشرق شرق بالفعل والغرب غرب، وانهما لن يلتقيا ابدا؟ هل انغلاقنا على انفسنا، جعل الغرب ينظر نحونا بريبة، لاصرارنا على ايصاد الباب في وجه كل ما يلج الينا من نفحات فكرية وعلمية، وان هذا الانغلاق كان شرارة الانطلاق لانتشار العنصرية البغيضة في كافة بقاع الارض؟ عندما وقعت حادثة نيويورك وواشنطن، اهتزت مشاعري مثل جميع الناس، وفكرت في مصير سبعة ملايين انسان يعيشون في اميركا من اصول عربية، بجانب العرب الآخرين الذين يقيمون في دول اوروبا، وبالفعل قرأت عن عدة حوادث فردية، قام بها افراد ينتمون لمنظمات متطرفة. استغلت حادثتا نيويورك وواشنطن للنيل من العرب، واشباع عفونة العنصرية التي تفوح من اعماقهم لكل دم عربي، كأن هؤلاء العرب المقيمين، لم يكفهم خروجهم من بلادهم بسبب الفقر والفاقة، او سعيا للخلاص من سعير القمع في اوطانهم، وتجرع مرارة الغربة على مضض، وتحمّل لوعة فراق الاهل والاحباب، ليجدوا فجوة من الجحيم مفتوحة امامهم لتحرق امنهم وتهدد سلامتهم! ليت الامر توقف عند هذا الحد بل استغلت اسرائيل الفرصة لتزويق صورتها امام الرأي العام الاميركي، وتشويه صورة الانسان العربي، بان قامت بتصوير افراد محدودين من الفلسطينيين هللوا لهذه الحادثة المريعة، وقاموا بتوزيعها على كافة تلفزيونات العالم، ليقولوا للرأي العام الاميركي والاوروبي، ان الشعوب العربية متوحشة متعطشة للدم، محبة للعنف والدمار، في الوقت الذي اهمل فيه الاعلام العربي مشهد الاسرائيليين، الذين وقفوا يضحكون ويسخرون من الناس الذين كانوا وقتها يفرون فزعين من موقع الانفجار، ويعبرون عن غبطتهم لان اصابع الاتهام موجهة للعرب. هذه التطورات الخطيرة، تجبرنا على طرح علامة استفهام كبيرة، الى متى سيقف اعلامنا العربي عاجزا تجاه ما يحدث في العالم؟ متى ستستوعب الحكومات العربية اهمية الاعلام في ايصال رسائلنا للعالم بأسره؟! واذا كانت الحكومات العربية غسلت يدها من اعلامها ولم تعد تأبه به، اين دور الافراد في الترويج لقضاياهم القومية؟ في دول العالم المتحضر لا تقع مسؤولية الاوطان بكاملها على الحكومات، بل للافراد دور في بناء قاعدة اوطانهم، ويكفي ان يقوم المرء بجولة في اي دولة اوروبية، او ولاية اميركية، ليجد اسماء لامعة من مفكرين وساسة واثرياء، معلقة على مشاريع حيوية، قامت على سواعدهم، بعكس العرب البارزين، الذين لا يحققون انجازات في بلدانهم العربية، الا اذا ضخت عليهم في المقابل ارباحا مضاعفة، اما المسؤولية الوطنية والقومية فتجيء في آخر اهتماماتهم، اللهم الا ندرة منهم!! لقد أقرت الحكومة الاسرائيلية قيام قناة تلفزيونية اسرائيلية تبث باللغة العربية، للعبث بفكر الشباب العربي، وتسميم عقله، والبلدان العربية ما زالت تتشاجر وتختلف وترتفع الاصوات ما بين مؤيد ومعارض، حول الموافقة على انشاء قناة تلفزيونية عربية تنطق باللغات الاجنبية، لمخاطبة الرأي العام الغربي، على الرغم من حاجتنا الماسة لها، للقيام بعمليات تجميل ماهرة لتجميل الوجه العربي، الذي غدا شديد البشاعة في نظر الغرب، وداست عليه الاقدام، ولاكته الالسن، ومزقت جسده الرماح، حتى تاهت ملامحه، وبات مطموس الهوية. ان ما حدث في نيويورك وواشنطن ليس محصورا في علامات التعجب والدهشة، وانما الهم الحقيقي يدور حول تبعات هذا الفعل على العرب، والحكم عليهم بنظرة مشبعة بالريبة والحذر والخوف. يوم نزلت القنبلتان الذريتان على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، اعلن بعدهما امبراطور اليابان هزيمته في الحرب، لم تقف عند مصابها، ولم تولول على ضحاياها، بل تناست ماضيها، وغسلت اوجاعها، وضمدت جراحها، ووضعت خططا مدروسة لاجيالها الصاعدة لحمل لواء مستقبلها الاقتصادي، حتى اضحت في مقدمة الدول المتحضرة، والواجب على العرب التفكير بروية وحكمة للخروج من هذه الورطة المحكمة الصنع، بان يتحرك بهمة ونشاط كل عربي، يملك القدرة على الفعل والقول، ان يثبت للعالم بأسره، اننا امة قامت على احترام الاديان السماوية، والايمان بحقوق الشعوب في العيش على ارضها بسلام، وانها تتطلع دوما لارساء العدل والحق والمساواة لكافة البشرية. اننا امة ذات حضارة عريقة، تملك سجلا حافلا من الانجازات، وقد اخرج الاسلام في الماضي علماء ومفكرين وعباقرة، قدموا للغرب النواة التي صنعوا بها حضارتهم، وان التراث المتنوع الدسم الذي خلفه المسلمون، هو الذي فتح للغرب الدروب المضيئة لبناء صرح تقدمهم. لا احب الالتصاق بجدار الامس، وارفض الوقوف عند الاطلال، واتململ من الجلوس عند اعتاب الماضي، والمباهاة بتاريخ انقضى وولى زمانه، لكن احيانا هز الرأس بقوة يعيد اليه صوابه!! كيف يمكن ان نعود الى ما كنا عليه؟! اجيبوني بالله عليكم ان كان عند احدكم حل سريع يشفي الجروح التي ما زالت تنزف من الفجيعة.