كيف نجح د.غازي القصيبي؟

TT

يمكن أن تكون قياديا ناجحا، لكن أن تكون وزيرا وسفيرا وأديبا وروائيا وشاعرا متألقا طوالا حياتك فهذه حالة يندر أن نجد لها مثيلا في منطقتنا. القيادة السعودية اكتشفت بحنكتها المعهودة الراحل الكبير د.غازي القصيبي، فضمته إلى صفوف أول وزارة لها، في السبعينات، واستمر عطاؤه حتى الرمق الأخير، فمات على فراشه وزيرا وقد ملأ الدنيا وشغل الناس.

عندما سُئل د.القصيبي كيف يمكن أن يوفق بين عمله المليء بالواجبات الاجتماعية والرسمية الكثيفة، ونشاطه الفكري والأدبي، قال إنه «يعيش نظاما صارما، فلا يخرج من بيته أو يشارك في المناسبات إلا ليلتين في الأسبوع، ويمضي البقية قراءة وكتابة» وفق ما أخبرنا به زميلنا أ.عبد الرحمن الراشد. لكن ما سر هذا النجاح والتفوق؟

كان د.القصيبي - كغيره من الناجحين الأعلام - يقدس الوقت، ودقيقا في مواعيده، وإلا لم يكن ليحقق كل هذه الإنجازات المتتالية. وكان أيضا لا يخلط بين العمل وحياته الشخصية، ولذا لا يقبل أن يعلن رقم هاتفه للمواطنين، ولا يستقبل شكاواهم في منزله، حيث قال إنه يرفض أن «يتحول البيت إلى مكتب.. ولو فعلت لما وجدت ثانية واحدة للراحة.. ولصار بيتي يموج بحشود تبحث عن معالي الوزير»! لكن - في يوم من الأيام - نجح مجموعة من المراجعين في «اقتحام منزله اقتحاما» فما كان منه إلا أن أحسن استقبالهم - كعادة السعوديين - وقدم لهم الشاي، غير أنه رفض تسلم عرائضهم! يا له من درس في الأخلاق والانضباط. وقد أعلن أكثر من مرة أنه يؤمن «بسياسة الباب المفتوح» لكنه لم يؤمن «بسياسة الباب المخلوع» كما قال! وهذا درس آخر لبعض القياديين العرب المختلطة أولوياتهم بسبب المجاملات الفارغة.

ورغم ذلك الانضباط الصارم، كان يقابل المواطنين «بلا موعد في لقاء مفتوح، يبدأ عقب صلاة الظهر، ويستغرق عادة قرابة الساعة». لاحظوا حتى اللقاء المفتوح محدد بوقت بالنسبة إليه، لكنه مفتوح ومن دون موعد للآخرين، وهي ميزة مهمة قلما تقدمها شخصية وطنية بحجم انشغالاته. وكان «يحدد موعدا منفصلا لكل مواطن يريد مقابلته مهما كان موقعه من السلم الاجتماعي» حسب قوله، شريطة أن يمهل مدير مكتبه يومين لتدبير جدول المواعيد.

أما سر إنجازاته الكثيرة في الوزارات المتعاقبة التي شغلها، فكان يقف وراءه اقتناعه الراسخ بمبدأ التفويض. حيث أصدر قراره الشهير عند توليه الوزارة وكان من جملة واحد «تفوض كل صلاحيات الوزير المالية والإدارية للوكيل» فوجد بعد ذلك متسعا كافيا من الوقت للتفكير والتخطيط، وهي المهمة الأصلية للقياديين، وإلا لتحول إلى مدير غارق في تفاصيل العمل اليومي. وأذكر أنه عندما كان وزيرا للكهرباء سأله صديق كان معه في السيارة «إلى أين يسير هذا السلك الكهربائي الهوائي؟» فقال الوزير «لا أعلم»، فاستغرب السائل، فأبلغه القصيبي أنه لو يعلم هذه التفاصيل لكان مديرا لشركة كهرباء وليس وزيرا للكهرباء!

وكان يتساءل «كيف يستطيع وزير يوقع كل يوم على عشرات القرارات، وربما مئاتها، بالعمل خارج الدوام، أن يقرأ دراسة جدوى اقتصادية من ألف صفحة؟»، وجاء جوابه أن «من يوقعون قرارات كتلك لا يقرأون دراسات كهذه». وربما هذا ما دفعه إلى إطلاق كلمته المشهورة «من ينفق وقته في التوافه لن يجد متسعا من الوقت للعظائم».

ولجأ د.القصيبي إلى حل رائع للتغلب على مشكلة تخوف البعض من التفويض، وهو الاجتماع الصباحي اليومي مع وكلاء الوزارة حتى صاروا يدركون توجهات الوزير فلا يصدرون قرارات لا تتماشى مع هذه التوجهات. وكان يضع أمامه ما يسميه «ملف القراءة» وفيه كل قرار صادر من أي وكيل أو مدير في الوزارة، حتى يضمن حسن سير العمل.

وقد اعترف ذات مرة لصحيفة «الشرق الأوسط» بشجاعة بأن نجاحه الأول كان في صراع مع النفس، حيث قال إن «نجاحي الأول - والوحيد - أنني استطعت عبر جهود مضنية استغرقت عقودا من الزمن أن أتغلب، إلى حد ما، على ما في داخلي من مخزون الخجل وعقد الانطواء وضعف الثقة بالنفس والخوف من الجموع وعشق العزلة». إذن هو يقر بأنه شخص طبيعي مثلنا يعاني من مشكلات داخلية، لكنه «حاول» التغلب عليها ولم يجلس يندب حظه، كما يفعل البعض فتفوته فرص عظيمة في حياته كان يمكن أن تفتح له أبواب النجاح والتألق.

ورغم شدة انشغاله، فإنه نجح في وضع أهداف صغيرة لكنها ذات تأثير واضح على مسيرة عمله. ومنها قراءة ملخصات كل ما يكتب عن وزارته ويكلف المعنيين بالرد عليها، وأحيانا يقوم بذلك بنفسه وبخط يده ليكسب ود الصحافي الذي يعادي مؤسسته. كما أنه أخذ على نفسه عهدا بأن يفتتح «أي مصنع يدعى إلى افتتاحه، كبيرا كان أو صغيرا، في أي منطقة قريبة كانت أو نائية». ووضع هدفا آخرا يفعله مرة كل شهر وهو مرافقة فرق صيانة الكهرباء لمختلف الأحياء للوقوف على سير عملهم، وهذه الطريقة التفقدية رائعة حيث إنها تجعل المديرين ومرؤوسيهم على أهبة الاستعداد لزيارة مباغتة للوزير في أي لحظة.

في إحدى المرات التي انقطع فيها التيار الكهربائي قرر التوجه إلى مقر الشركة ليشارك موظفي السنترال تلقي الشكاوى الهاتفية! وذات ليلة اتصل مواطن غاضب وقال وهو يصرخ «قل لوزيركم الشاعر إنه لو ترك شعره واهتم بعمله لما انطفأت الرياض كلها»، فقال له الوزير ببساطة «شكرا! وصلت الرسالة»، فقال المتصل مستغربا «ماذا تعني؟»، فرد عليه القصيبي «أنا الوزير»، فقال: «احلف بالله!» ففعل. وبعد لحظة صمت هوى المتصل بالسماعة!

هكذا كان الوزير الإنسان غازي القصيبي محبا لعمله، نزيها ومخلصا له ولوطنه ولمواطنيه الذين أحبوه، كما أحببناه نحن الخليجيين، حيث نرى فيه القيادي الفذ الذي جمع المجد من أطرافه بجده واجتهاده. رحمك الله يا أبا سهيل.

همسة للموظفين والقياديين: اقرأوا كتابه «حياة في الإدارة» فهو من أجمل الكتب العربية الحديثة، و«أكثر كتبه مبيعا» حسب قوله.

[email protected]