أيام فاتت

TT

كان عبد العزيز القصاب صديقا حميما لعبد المحسن السعدون إلى درجة أن قررا السكن في بيتين متجاورين في المحلة التي سميت باسمه، محلة السعدون. وبالطبع كثيرا ما قضيا أمسياتهما في زيارة بعضهما بعضا وشرب القهوة معا. وفي إحدى هذه الأمسيات روى عبد المحسن السعدون هذه الحكاية الطريفة لزميله وسجلها عبد العزيز القصاب في مذكراته.

كان عبد المحسن السعدون وزيرا للداخلية عندما ذهب في جولة تفقدية إلى الجنوب، بيد أنه لم يحدد موعدا لعودته إلى بغداد، وبالتالي لم يرتب حجزا في القطار ليحجز فيه قمرة خاصة به. لم يجد إلا سريرا واحدا خاليا في الدرجة الثانية. وكان رجل وزوجته قد شغلا السريرين الأسفلين. وكعادته لم يشأ السعدون أن يحرجهما في إعطائه أحد هذين السريرين، فتسلق إلى السرير الأعلى ونام.

ولكنه لم يستطع النوم وبقي يتقلب في سريره بما أفاق الرجل في الأسفل، فراح هذا يحدث زوجته بما خطر له. وكان مما خطر له أن راح يكلمها عن عمله كموظف في الحكومة، وذكر لها ما جمعه من مال من اختلاساته من خزانة الدائرة. ويظهر أن الحكومة قد أدركت ما كان يفعله فطردته من وظيفته. لم يكن المسؤولون يتساهلون أو يغضون النظر عمن يرتشي أو يسرق من أموال الدولة. وكان الرجل في طريقه إلى بغداد ليدعي ببراءته ويطالب بإعادته إلى وظيفته.

لم يكن يحسب قط أن الرجل النائم هناك على السرير العلوي هو الوزير المسؤول عنه بالضبط. وصل إلى بغداد وبادر فورا إلى تقديم عريضته إلى الوزارة يطالب فيها بإلغاء الأمر الصادر بطرده من العمل وإعادته إلى سابق وظيفته. سجل عريضته في مكتب الواردة وسار بها إلى مكتب الوزير لينظر فيها ويتوسل به. دخل المكتب وإذا به يجد أمامه نفس الرجل الذي كان معه في قمرة الدرجة الثانية في القطار وسمع كل شيء عن سرقاته واختلاساته من مكتب الدائرة. وقع في حيص بيص، كما يقال. لم يعرف ماذا يفعل. لم يجد غير أن يضع العريضة أمام السيد الوزير دون أن ينطق بكلمة ويسرع نحو الباب الذي دخل منه لمغادرة المكتب. ولكن عبد المحسن السعدون استوقفه وناداه: «أوقف لا تروح».

لم يجد الموظف الحرامي غير أن يعود من حيث أتى، خائفا خجلا أمام معالي الوزير. قال له عبد المحسن السعدون: «أنا سمعت في القطار كل ما قلته لزوجتك عن سرقاتك. ولكنني سأعيدك إلى وظيفتك شرط أن تعيد كل المبالغ التي سرقتها من خزينة الدائرة وتعدني بأن لا تكرر مثل هذا السلوك في عملك». وبالطبع لم يكن الرجل يتوقع من الوزير أن يعامله بهذا الكرم والتسامح، فخرّ عليه يحاول تقبيل يديه وهو يختض من الخجل والندم. سحب عبد المحسن السعدون يديه وتناول القلم وأشار إلى عريضة الرجل بإعادته إلى عمله على أن يسدد كل المبالغ الناقصة من ميزانية الدائرة. وكان يوما من الأيام الجميلة، أيام الخير اللي راحت.