المفاوضات المباشرة.. واشنطن هزت «العصا» لكنها لم تضرب!

TT

إن لم تكن «المفاوضات المباشرة» قد انطلقت، بينما كان هذا المقال في طريقه إلى النشر، فإن المؤكد أنها ستنطلق في أي لحظة منذ الآن وحتى بداية الأسبوع المقبل، فالقرار، حسب كل التقديرات والمعلومات أيضا، قد اتخذ أميركيا وعربيا وفلسطينيا والمتوقع أنه سيتخذ إسرائيليا على الرغم من إثارة بنيامين نتنياهو، كالعادة، بعض القضايا التعطيلية، فالضغط الأميركي هذه المرة جدي، ولهذا فإنه لم يعد بإمكان الإسرائيليين الهروب من هذا الاستحقاق الذي حان أوان دفعه بإثارة المزيد مما يعتبر أمورا إشكالية وخلافية.

كان الإسرائيليون يعتقدون أن محمود عباس (أبو مازن) لن يجرؤ على الذهاب إلى المفاوضات المباشرة ما دام أنهم مستمرون باستفزازاتهم ولم يوقفوا مناوراتهم وألاعيبهم التعطيلية التي هدفها دق إسفين سياسي كبير بين الولايات المتحدة والقيادة الفلسطينية ولذلك فإنهم لجأوا إلى مواصلة هذه الاستفزازات بالإعلان، بينما كان مساعد المبعوث الأميركي لعملية السلام ديفيد هيل يلتقي الرئيس الفلسطيني في رام الله، عن تزويد بعض مستوطنات الضفة الغربية بنحو دزينتين من البيوت الجاهزة وبمواصلة الإصرار على الرفض المسبق لأي بيان يصدر عن اللجنة الرباعية الدولية يتضمن ما يستجيب لمطلب القيادة الفلسطينية بتحديد مرجعية لهذه المفاوضات (المباشرة).

والحقيقة أن سر الانقلاب في المواقف، عربيا وفلسطينيا وإسرائيليا، والانتقال من دائرة التشدد إلى دائرة المرونة يكمن في تلك المكالمات الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي باراك أوباما مع بعض قادة الدول العربية ومع محمود عباس (أبو مازن) وأيضا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي والتي حسب المعلومات، وهي معلومات رسمية ومؤكدة، كانت في غاية الجدية والحسم وتضمنت تهديدات صارمة بلهجة جافة غير مسبوقة.

لقد قال الرئيس الأميركي إلى بنيامين نتنياهو، في هذه المكالمة الآنفة الذكر، إن استمرار الشرق الأوسط على هذا الوضع المتفجر لا يخدم إلا تنظيمات وقوى الإرهاب وإن عدم إنهاء هذا الصراع الذي استطال أكثر من اللزوم يعرض المصالح الأميركية في هذه المنطقة الاستراتيجية والهامة إلى الخطر ولهذا فإن على الإسرائيليين أن يتخلوا عن ترددهم وإن عليهم أن يحسموا أمورهم بسرعة ويذهبوا إلى المفاوضات المباشرة على أساس قرارات الشرعية الدولية التي سيتضمنها بيان يصدر عن اللجنة الرباعية الدولية.

وحسب المعلومات فإن أوباما قد لفت انتباه نتنياهو، في هذه المكالمة الآنفة الذكر، إلى أنه على إسرائيل أن تدرك أن هناك متغيرات استراتيجية آخذة بالتبلور في هذه المنطقة من بينها أن تركيا بدأت تشق طريقا غير الطريق الذي رسمه لها مصطفى كمال (أتاتورك) وأنها في غضون سنوات قليلة ستكون قوة إقليمية مؤثرة وأساسية وأنها لتأخذ موقعا قياديا في الشرق الأوسط ستضطر إلى اتباع سياسة جديدة إزاء الصراع العربي – الإسرائيلي عنوانه الانحياز إلى الجانب الفلسطيني وتبني المواقف العربية والفلسطينية بالنسبة لهذا الصراع.

والظاهر أن بنيامين نتنياهو، على الرغم من كل ما يظهره من صَلَف ومن رفض للاعتراف بمستجدات موازين القوى في هذه المنطقة، بات يدرك كل هذه المتغيرات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، حيث أخذت تركيا تسير على طريق غير الطريق الذي بقيت تسير عليه منذ إنشاء إسرائيل وحتى بروز ظاهرة رجب طيب أردوغان، وحيث إيران قد اقتربت من امتلاك القنبلة النووية، وحيث أيضا إن التفوق العسكري الإسرائيلي لم يعد يخيف لا العرب ولا الفلسطينيين ولا حتى حزب الله الذي بات يعتبر نفسه رقما رئيسيا في المعادلة الشرق أوسطية.

إن هذه هي الحقيقة الأولى، وأما الحقيقة الثانية فهي أن الإسرائيليين باتوا يدركون، وإن كان اليمينيون من بينهم لا يعترفون بهذا، أن العالم قد «قرفهم» و«قرف» ألاعيبهم وأنه مل هذا الصراع المستمر بلا نهاية وأن هناك تيارات يهودية بدأت تظهر في أوروبا والولايات المتحدة لم تعد تطيق تصرفات إسرائيل ولم تعد تحتمل تصرفاتها ومواقفها السياسية وهذا كله يبدو أن الموفدين الأميركيين قد رددوه عشرات المرات وهم يحاولون إقناع بنيامين نتنياهو وبعض رموز حكومته بأن واقع اليوم غير واقع الأمس وأنه لا بد من أخذ كل هذه المتغيرات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة بعين الاعتبار واتخاذ خطوة إيجابية في اتجاه الذهاب إلى المفاوضات المباشرة كاستحقاق لا بد منه ولا بديل عنه.

وبالطبع فإن ما أسمعه باراك أوباما في اتصاله الآنف الذكر لبنيامين نتنياهو قد قال مثله وأكثر منه للعرب والفلسطينيين وهناك معلومات شبه مؤكدة تتحدث عن أنه قال للرئيس محمود عباس (أبو مازن) إنه يتفهم مطالبه وإنه سيسعى لإلزام الإسرائيليين ببعضها على الأقل لكن الأميركيين في النتيجة لن يبقوا يطاردون سراب الشرق الأوسط بلا نهاية وإنهم إذا وجدوا أن جهودهم ستصبح عبثية فإنهم سيضطرون للانسحاب وسيتركون كل طرف من أطراف الصراع يقلع شوكه بنفسه.

إن هذه هي حقيقة ما قاله أوباما في هذه المكالمات الآنفة الذكر والواضح أن هذه اللهجة الحاسمة التي استخدمها أوباما في مكالماته هذه قد أدت غرضها المطلوب فقد أبدى نتنياهو في البداية مرونة غير مسبوقة وأكد أنه يتفهم «الصيغة» التي تم الاتفاق عليها كحل وسط والتي يجب أن يصدر بيان اللجنة الرباعية الدولية، الأمم المتحدة وأميركا والاتحاد الأوروبي وروسيا، وفقا لها وكذلك بالمقابل فقد وافق الفلسطينيون على هذه الصيغة ومعهم من الدول العربية مصر والأردن والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر. وهكذا فقد كان المفترض أن يعلن البدء بالمفاوضات المباشرة، التي حدد الأميركيون سقفها الزمني بعامين تقوم خلالهما الدولة الفلسطينية المنشودة خلال هذه الأيام لو أن الأمور سارت وفقا لما تمت بلورته في آخر جولة قام بها جورج ميتشل في هذه المنطقة وهنا فإن المشكلة تكمن في أن الأميركيين قد هزوا العصا فعلا هذه المرة في وجوه الإسرائيليين لكنهم لم يشعروا هؤلاء بأنهم إذا لزم الأمر سيضربون وأنهم سيلزمون الجميع بكل ما تم الاتفاق عليه.

لكن المفاجأة بينما كانت أجواء التفاؤل تعم جميع الأطراف المعنية هي مجيء ديفيد هيل إلى رام الله ليبلغ القيادة الفلسطينية بأن الإسرائيليين أجروا بعض التعديلات «الطفيفة» على الصيغة التي تم الاتفاق عليها بين ميتشل من جهة والعرب والفلسطينيين وبنيامين نتنياهو من جهة أخرى، وقد أدى هذا إلى نقاش استغرق زهاء ثلاث ساعات في مبنى المقاطعة بين (أبو مازن) ومساعد الموفد الأميركي تكلل بالتوصل إلى اتفاق على إجراء بعض التعديلات على التعديلات الإسرائيلية ساهم في التوصل إليها عبر الهاتف الموفد الأميركي جورج ميتشل نفسه.

وهكذا فإن الكلمة الأخيرة التي قالها محمود عباس (أبو مازن) لمساعد الموفد الأميركي ديفيد هيل هي أن هذا هو رأينا النهائي وأنه إذا وافق الإسرائيليون على هذا فإنني سأدعو القيادة الفلسطينية إلى الاجتماع لتقرر ذهابنا إلى هذه المفاوضات على الفور أما إذا بقي نتنياهو على موقفه فإنني سأضطر إلى العودة إلى لجنة المتابعة العربية لتقول رأيها ولتتخذ الموقف المناسب بعد أن أدار رئيس الوزراء الإسرائيلي ظهره لما جرى الاتفاق عليه وتغيير الصيغة التي تمت الموافقة عليها عربيا وإسرائيليا وفلسطينيا بعد جهود مضنية بذلها موفد الإدارة الأميركية جورج ميتشل.

والآن وفي هذا كله فإن عنصر الوقت غدا في غاية الأهمية وإن على الأميركيين أن يدركوا أنهم إذا واصلوا الضغط على جانب واحد، هو العرب والقيادة الفلسطينية، وتركوا للإسرائيليين الحبل على الغارب فإن النتيجة ستكون حتما زلزالا كبيرا في هذه المنطقة، فإيران اقتربت من امتلاك السلاح النووي والإرهاب عاد للانتعاش مجددا، ومنطقة الشرق الأوسط في ضوء ما يجري في العراق ولبنان وأفغانستان واليمن مرشحة لتطورات دراماتيكية رهيبة.