قمة تغليب الحكمة على العنفوان

TT

من مصلحة لبنان الذي يُرَى في إطلالة خادم الحرمين الشريفين ومعه الرئيس بشَّار الأسد عليه يوم الجمعة 30-7-2010، أن يعتبر (وأن يتصرف في الوقت نفسه) بأن الموقف الذي اتخذه عند التصويت على قرار العقوبات على إيران، التي يتواصل التزام الدول بها وتأكيد التأثير الذي تسببه للرأي العام وللدولة معا، هو تسليف وقفة لتدعيم الموقف الإيراني في مواجهة الهجمة الدولية العقابية من جانب مجلس الأمن على الجمهورية الإسلامية.

ومن مصلحة أهل الحكم الإيراني التأمل في التعامل المتجرد من المملكة العربية السعودية مع لبنان عندما يتوعك، والتفكير في وسيلة ما لتسديد هذا التسليف، وعلى قاعدة أن الديون ملازمة للتسديدات، سواء كانت بين مصرف ودولة أو مواطن، أو كانت بين شخص دائن وآخر مدين.

ولمزيد من التوضيح نقول إن الامتناع عن التصويت كان أمرا دون قدرة لبنان وظروفه الدولية على تحمُّله ودون قدرة ظروف لبنان الداخلية للإجماع عليه، لكن الخشية من تداعيات في الداخل تغلبت على مكاسب إغراءات ومكافآت من الخارج، فكان قرار الامتناع عن التصويت الذي يمكن، في حسابات الربح والخسارة، اعتباره مكسبا للحكم الإيراني، حيث هو قادر على تدعيم موقفه من قرارات مجلس الأمن بالقول ما معناه إنه حتى لبنان المثقل بالقرارات الدولية، التي لا يلقى بعضها التنفيذ عندما يشكِّل إدانة لإسرائيل، يقر بأن العقوبات على إيران النجادية نوع من التجني الذي لا مبرر له ما دامت ارتضت الصيغة التركية - البرازيلية للتسوية ووافقت على اقتراح التبادل النووي.

في ضوء ما نشير إليه، نرى أن الامتناع اللبناني، الذي لم يرُق لمعظم رموز الأطياف السياسية والحزبية المتعاطفة مع إيران النجادية - الخامنئية، مع أن السفير الإيراني الجديد غضنفر ركن آبادي أشاد بالامتناع، كان سلفة ذات أهمية كبرى من جانب لبنان الرسمي للحكم الإيراني ومن دون أن يشكّل هذا الامتناع تقويضا لقرار العقوبات أو خلخلة فيه. وهنا نتساءل: كيف يمكن أن تسدد إيران النجادية هذه السلفة. ونقول سلفة على أساس أن الامتناع عن التصويت كان نصف ديْن، عِلْما بأن امتناع لبنان عن التصويت بينما هنالك انقسام ضمني ومعلَن داخل بعض أطيافه وطوائفه هو بمثابة الديْن.

وعندما نتساءل نستحضر العبارة التي سبق أن قالها على الملأ، وباللغة العربية التي يتكلمها لأنه خريج الجامعة اللبنانية، السفير الإيراني غضنفر يوم الجمعة 21 مايو (أيار) الماضي بعدما كان قدم أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية ثم زار قبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري واضعا باقة ورد على القبر قارئا الفاتحة على روح أبو بهاء. والعبارة اللافتة التي قالها باللغة العربية تفاديا للتأويل أو التقويل عند الترجمة من الفارسية هي: «إن الجمهورية الإسلامية مستعدة لإقامة علاقات جديدة مع لبنان وإننا نشيد بالدور البارز الذي لعبه الشهيد رفيق الحريري طيلة السنوات الماضية وفي فترات عصيبة وصعبة في لبنان خصوصا الدور الذي لعبه في توحيد الساحة الداخلية اللبنانية ووقوفه إلى جانب المقاومة ودعمه استتباب الأمن والاستقرار في لبنان وأيضا الجهود الجبارة التي بذلها لأجل ترسيخ العلاقات الثنائية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية اللبنانية التي لا ننساها أبدا». ولم يقتصر هذا الإبلاغ عن الموقف الإيراني المستجد على الحالة الحريرية التي تكاثرت في شأنها أقاويل استوجبت توضيحا إيرانيا بوضوح مضمون كلام السفير غضنفر، وإنما قيل الكلام في شأن استعداد إيران النجادية – الخامنئية لإقامة علاقة جديدة مع لبنان، لرئيس الطائفة المارونية البطريرك صفير عندما زاره السفير الإيراني في مقر البطريركية. ومن الطبيعي أنه أوضح الكلام أكثر عندما زار رئيس الحكومة سعد الدين الحريري.

لا ندري ما هي دوافع الحكم الإيراني إلى مثل هذه اللفتة وهل كانت تمهيدا لوقفة من جانب لبنان الرسمي وليس فقط «لبنان حزب الله والمقاومة وحركة أمل» عندما يضيق الالتفاف الدولي على إيران النجادية – الخامنئية، أم أنها لتعديلات في أسلوب تَعامُل الطيف اللبناني المتعاطف مع إيران بحيث يتساوى التعاطف مع المصلحة اللبنانية العامة.

بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن 1929 الذي قضى بإنزال عقوبات اقتصادية ومالية وعسكرية على إيران ذات الطموح النووي، يأتي قولنا بأن الذي حدث هو تسليف لبناني بالغ الأهمية من واجب الحكم النجادي – الخامنئي التسديد وعلى قاعدة الرد على التحية بمثلها أو بأحسن منها وفي ضوء ما أشار إليه السفير الإيراني غضنفر آبادي ومباشرة بعد تقديم أوراق اعتماده لإضفاء البعد الرسمي على القول، في شأن العلاقة الجديدة مع لبنان.

كيف هو شكل هذه العلاقة؟

إذا كانت مساعدات، فإن الحكم الإيراني يساعد عمقه المتمثل بـ «حزب الله» الذي بدوره يتولى تنفيذ مضامين بنود المساعدة. أما على صعيد المساعدة الأشمل فإن هذا غير مرئي ولا مجاهرة في شأنه.

لكن المساعدة المأمولة والتي يمكن اختصار واجب التسديد لها فإنها بدفْع حزب الله سلاحا وسياسة إلى الانصهار في الدولة اللبنانية ما دام الحصار قد بدأ وسيطول ويسهم في بروز ظواهر سلبية من بينها التهريب على أنواعه من نفط وسلع استراتيجية، ومن بينها بطبيعة الحال الأخْذ بأسلوب «كوبونات النفط» للحفاظ على ولاءات الأعماق الإيرانية وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده الرئيس العراقي صدَّام حسين في السنوات الأربع التي سبقت إحكام أطواق الحصار على نظامه.

ومثل هذا الأسلوب في التسديد، أي دفْع الحزب بسلاحه وسياسته إلى الانصهار في الدولة وإصداره وثيقة الانتقال من المقاومة العسكرية إلى المقاومة السياسية، كفيل بحفظ الكرامات والإبقاء على وهْج المقاومة مستقرا في المشهد العربي والإسلامي والدولي وفي الوجدان الوطني.

تبقى الإشارة إلى أن إطلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز يوم الجمة 30-7-2010 على لبنان المتوعك تجعلنا نستحضر زيارته، المماثلة من حيث الهدف، التي قام بها يوم الأربعاء أول مارس (آذار) 2000 (وكان ما زال وليا للعهد) وسمع خلال استقباله في مقر إقامته في قصر الرئيس رفيق الحريري كلاما تقديريا بالغ الأهمية من وفد حزب الله الذي زاره للتحية ويضم النائب (السابق) إبراهيم السيد الذي كان يترأس «كتلة الوفاء للمقاومة» وعضوي الكتلة النائبيْن الحالييْن محمد فنيش وعمار الموسوي. ومما قاله رئيس الوفد إبراهيم السيد «التقينا بسمو الأمير عبد الله لنعرب له عن تقديرنا العميق لموقف السعودية الداعم للمقاومة ولموقفه المتميز شخصيا. ولا يمكن النظر إلى حركة سمو الأمير على أنها خطوة في الفراغ، إنها حركة مهمة جدا وتأتي في قلب المواجهة مع العدو الإسرائيلي. كما أنها المرة الأولى التي يلتقي فيها مسؤولون في حزب الله مسؤولا سعوديا رفيعا، آملين أن يكون هذا اللقاء فاتحة خيرِ».

وأمنية كل اللبنانيين بمن فيهم جمهور حزب الله أن يتم في مرحلة لاحقة لقاء يرتِّب له الرئيس بشَّار الأسد وينعقد في مكة المكرَّمة ويكون اللقاء هذه المرة على أعلى مستوى من جانب حزب الله، ومن نوعية لقاء المصالحة الفلسطينية بين محمود عباس وقادة من «فتح» وخالد مشعل وإسماعيل هنية مع قياديين من حماس، والذي ارتكب الطرف الفلسطيني الذي لم يلتزم بالاتفاق الخطأ الكبير. كما يكون لقاء مكة الذي يرتب له الرئيس بشَّار هو القمة التي تنقذ ما يمكن إنقاذه.. هذا في حال كانت النية طيبة وكان هنالك إصغاء مسؤول. وهذا أمر على درجة من اليسر في ضوء الحالة السعودية – السورية – اللبنانية المتمثلة في لقاء القمة في بيروت وكذلك في ضوء الضجيج السياسي بالنسبة إلى المحكمة الدولية وما يقال حول شبهة لعناصر من حزب الله في عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ورد السيد حسن نصر الله على ذلك بوقائع تؤكد في تحليله أن إسرائيل وعملاءها نفَّذوا عملية الاغتيال. والأهم من هذا ألا يكون هنالك من الرئيس نجاد، الذي سيزور لبنان لاحقا، تحفيز أو تصعيد، وتلك مهمة موكولة إلى الرئيس بشَّار الأسد الذي أبلغ وزير خارجية إيران منوشهر متقي وقبل ذلك علي أكبر ولايتي كبير مستشاري آية الله خامنئي، اللذين زارا سورية بهدف طمأنة القيادة في إيران، ما معناه أن الإصغاء إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز يجعل المرء يرتئي تغليب الحكمة على العنفوان وبذلك يمكن نيْل المطالب... ولو بعد حين.