الصداقة الصعبة

TT

صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية تؤكد و«البيت الأبيض» ينفي تهديد تركيا بحرمانها من أسلحة أميركية طلبتها مؤخرا.. ما لم «تعدل» حكومة رجب طيب أردوغان موقفها من إسرائيل وإيران.

سواء صحت رواية الصحيفة البريطانية أم صح خبر النفي الأميركي لها، فلا يبدو مستبعدا أن يكون «تسريب» الرواية ونفيها رسالة تحذير أميركية غير مباشرة لتركيا حول مستقبل علاقاتها مع واشنطن في حال استمرارها في مخاصمة إسرائيل ومسايرة إيران.

لم تتردد واشنطن، في سياق نفيها لخبر التهديد، عن الاعتراف بوجود «بعض نقاط الاختلاف» مع تركيا. ولكنها خلافات قالت إن «مناقشتها تتم عبر التفاهم والاحترام».. مما يوحي بأن من يقف وراء تسريب خبر التهديد الأميركي، بصيغته الفجة البعيدة عن «التفاهم والاحترام»، قد يكون مصدرا إسرائيليا أو «متعاطفا» مع إسرائيل يسعى إلى توسيع الخلاف القائم حتى الآن، باعتراف البيت الأبيض نفسه، بحيث لا يبقى في الشرق الأوسط حليف أو صديق موثوق للولايات المتحدة سوى إسرائيل.. وإسرائيل وحدها.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: أما آن الأوان للولايات المتحدة، بعد كل تجاربها المحبطة على صعيد إقامة علاقات صداقة خالصة مع شعوب ودول الشرق الأوسط، لأن تتحرر من ضغوط العامل الإسرائيلي على هذه العلاقات؟

ربما كان لبنان، في أعقاب تداعيات جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، الدولة المؤهلة لأن تصبح نموذجا لعلاقة صداقة واعدة مع الولايات المتحدة. ولكن بعد خمس سنوات من الاعتماد على الدعم الأميركي «الإعلامي» لقضيتها الاستقلالية، دفعت قوى الأكثرية البرلمانية في لبنان (14 آذار)، ثمن ثقتها في صداقة محتملة مع واشنطن فعادت مسرعة - وإن بإخراج يحفظ ماء الوجه - إلى الأدبيات السياسية لمرحلة ما قبل «ثورة الأرز». وعلى هذا الصعيد يحسب للنائب وليد جنبلاط، أنه كان الأسرع في التقاط إشارات رادار الدبلوماسية الأميركية المسايرة لإسرائيل وإعادة تموضعه السياسي بعيدا عن «إحراجات» صداقة واشنطن.

والتجربة نفسها مر بها الجيش اللبناني، فبمجرد أن تصدى لتعد إسرائيلي على سيادته في منطقة العديسة الجنوبية، قامت قيامة اللوبي الصهيوني في واشنطن على استعماله السلاح الأميركي في وجهها بلغت حد المطالبة بوقف تسليح الجيش اللبناني، وكأن الهدف المستتر من تسليح الجيش اللبناني هو ضمان عدم محاربته إسرائيل. وإذا كانت واشنطن تجاوزت، في الحالة اللبنانية، ضغوط اللوبي الصهيوني فقد يعود ذلك إلى حسابات أميركية ما زالت تعتبر أن تسليح الجيش اللبناني يعزز الاستقرار الداخلي ويساهم في وضع حد للتسيب الأمني في منطقة الحدود مع إسرائيل.

واليوم تمر تركيا، بدورها، في تجربة امتحان الصداقة الأميركية خارج «البركة الرسولية» الإسرائيلية فتواجه غضب واشنطن بداعي أن بعض الإجراءات التي اتخذتها حكومة أردوغان أثارت تساؤلات في الكونغرس «عما إذا كان بامكاننا أن نثق بتركيا كحليف». (صحيفة «فايننشال تايمز» عدد 16/08/2010).

لا جدال في أن العلاقات الدولية تحكمها المصالح المشتركة، ولكن مصالح البلدين المعنيين بها لا مصالح طرف ثالث. ومع التسليم بواقعية المقولة الأميركية إنه «لا وجود لوجبة غداء مجانية» في العالم، يصعب الاقتناع بحكمة التوقف عن إمداد تركيا بالسلاح ما لم «يعدل» رئيس حكومتها موقفه من إسرائيل وإيران.

إذا كانت «تضحية» الولايات المتحدة بلبنان لا تبدل كثيرا في معادلاتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فإن «تضحيتها» بحليفتها تركيا أكثر تأثيرا وعلى أكثر من صعيد، فتركيا عضو رئيسي في حلف الأطلسي والدولة التي تشارك بأكبر قوة برية فيه. وإذا كان هذا الحلف فقد الكثير من أهميته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن التزامات الولايات المتحدة تجاه أعضائه لا تزال على حالها وأحد بنودها الرئيسية ضمان تسليحهم في مواجهة «العدو المشترك» - الذي يبدو أنه لا يزال متأهبا بدليل مواصلة الحلف توسيع قاعدته.

وإذا جاز لواشنطن تجاهل موقع تركيا على خريطة الشرق الأوسط وأهميته الاستراتيجية فهل يجوز لها، أدبيا وسياسيا، تجاهل الخدمات التي قدمتها، على مدى نصف قرن، للإستراتيجية الأميركية في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، كجبهة متقدمة للحلف؟